احترف الإعلام في يوم ونصف!.. “فوضى مراكز التدريب”

تعتمد هذه المراكز أسلوب استثارة الرغبات والطموح لدى فئة الشباب وإغواءَهم بأن دخول مجال الإعلام ليس بالصعوبة التي يتخيلونها، وأن بإمكانهم من خلال دورة واحدة أن يشقوا طريقا سريعاً إلى عالم النجومية من خلال طرح مساقات تدريبية في أقل عدد من الساعات أو الأيام.

عربي بوست
تم النشر: 2017/02/22 الساعة 05:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/02/22 الساعة 05:40 بتوقيت غرينتش

احترفِ الصِّحافةَ في ثلاثة أيام، تعلم كتابة السيناريو في يومين،كيف تصبح مراسلاً تلفزيونيا في يوم ونصف؟
الآن باستطاعتك منافسة "ميل جيبسون" و"جيمس كاميرون" إذا التحقت بدورة "احترف الإخراج في أسبوع"! معنا طريقك إلى أبرز الشاشات العربية أصبح ممهداً.

عناوين برّاقة نطالعها بشكل يومي على منصات التواصل الاجتماعي، تنشرها مراكز تدريب عربية أصبحت أصعب من أن تحصى، وتذكرني بانطلاقة كتيبات تعليم اللغات الأجنبية التي انتشرت في فترة معينة و"تضمن" لمقتنيها تعلم الإنجليزية أو الألمانية وغيرها من اللغات في بضعة أيام!
التدريب بحد ذاته أداة مهمة لصقل وتنمية المهارات في أي تخصص، ولا يستقيم العمل في أي مؤسسة إلا بضمان حق التدريب لمنتسبيها، والأمم الحريصة على رعاية المواهب لدى أبنائها وإكسابهم آخر ما توصلت إليه مجالات العلم والعلوم تعمل على جعل التدريب ثقافة عامة.

ولا شك في أن ثمة نماذج رائدة في عالمنا العربي تركت بصمات واضحة في عالم التدريب، ونافست مؤسسات أكاديمية عريقة وخرَّجت أجيالاً من المتدربين في شتى المجالات، غير أن ما نشهده مؤخرا يشير إلى تداخل مزعج بين الغث والسمين وبين الأكاديمي والتجاري، وبين الحقيقي والزائف، حيث تحول الأمر إلى تجارة يمارسها مبتدئون بحثا عن الربح السريع.

"تجارة التدريب" الرائجة هذه الأيام في أكثر من تخصص، عدا عن كونها مجازفة بمصير هذه المهنة أو تلك، فهي أيضا تسهم بشكل مباشر في خلق جيل من "فارغي المضمون" الحريصين على الشكل والمظهر فقط، ببغاوات يرددون ما يسمعون ويحفظون دون فهم أو تفكير، همهم الشهرة وتحصيل "اللايكات" وأكبر كم من صور "السيلفي" وموجات من "التطبيل والنفاق" على صفحات التواصل الاجتماعي، لهذا المخرج العالمي، وذلك الإعلامي المعروف، وهذا المراسل المحترف، وتلك المذيعة المتألقة!

وحتى نحصر حديثنا عن هذه الظاهرة نركّزه في مجال الإعلام، على اعتبار أنه المجال الأكثر إقبالا من فئة الشباب، لخصوصية هذه الشريحة من المجتمع الساعية بطبيعتها إلى الطرق الأسرع للنجومية والشهرة، وهي رغبة تَبرُع هذه المراكز في استغلالها سلباً من خلال عناوين جذابة ومضامين فارغة للأسف.

تعتمد هذه المراكز أسلوب استثارة الرغبات والطموح لدى فئة الشباب وإغواءَهم بأن دخول مجال الإعلام ليس بالصعوبة التي يتخيلونها، وأن بإمكانهم من خلال دورة واحدة أن يشقوا طريقا سريعاً إلى عالم النجومية من خلال طرح مساقات تدريبية في أقل عدد من الساعات أو الأيام.

وعلى سبيل المثال مادة "الإنتاج التلفزيوني" استغرقتْ دراستُها في الجامعة التي درست فيها فصلين دراسيين وهو ما يعادل تقريبا ستة أشهر، فكيف أمكن لهذا المركز أو ذاك اختزالها في ست ساعات أو ثلاثة أيام؟!

كما استغرقت مادة "التصوير الصحفي" فصلاً كاملا ًبمعدل ثلاثة أشهر، فبأي حق يتم تقزيمها لتعطى بورشة تدريبية لثلاث أو ست ساعات؟!
هذا يقودنا إلى معايير هذه المراكز في اختيار المدربين، ومدى التزامهم بالأمانة العلمية في تقديم أصحاب الكفاءة، هل هو المستوى الأكاديمي الذي وصل إليه المدرب، أم الخبرة العملية مشفوعة بسيرة ذاتية وعلمية من الإنتاج المهني، أم كلاهما؟!

أكاد أجزم – إلا من رحم ربي- أن لا معايير عند غالبية هذه المراكز، لكنَّها العلاقات الشخصية في المقام الأول، في إطار اتفاق علاقات عامة للتلميع، فكيف يُعقل على سبيل المثال أن يعلن مركز من هذه المراكز دورةً في "صناعة الأفلام" لـ"مدرب" ما لم نشاهد له فلما واحدا، أو لربما يتلخص إنتاجه الفني والمهني في برنامج تلفزيوني بائس ومجموعة من الفواصل والإعلانات؟!

راقبت عددا من الإعلانات التي تنشرها هذه المراكز لعقد دورات في مجالات إعلامية متنوعة فوجدت أن غالبية "المدربين" أو "المدربات" يتقاطعون في ثلاث صفات عدا عن حداثة سن غالبيتهم، وهي أن معظمهم انضموا إلى مجال الإعلام منذ سنوات قليلة بعضهم منذ سنتين أو أقل أحيانا، كما أن خبرتهم العملية لم تتجاوز مؤسسة إعلامية واحدة، وغالبا ما تكون مغمورة أو محلية غير معروفة، إضافة إلى أن نتاجهم المهني أو الصحفي لا يتجاوز في عدده أصابع اليد الواحدة!

فما هي القدرات الخارقة التي أهلت "عباقرة العصر وفلتات الزمان" لهذه المهمة؟!

في مراكز التدريب التي تحترم نفسها وتحترم ما تقدمه، ثمة شيء اسمه "تقييم المُدرب" وهو عبارة عن نموذج تقييم يوزع على المتدربين في نهاية الدورة التدريبية ويتضمن معاييرَ معينةً تتعلق بالأداء والتحضير والأدوات المستخدمة والتفاعل وأسلوب التدريب وغيرها من المعايير".

والسؤال هنا،كم من مراكز التدريب الإعلامية التي نتحدث عنها تلتزم أو تلزم نفسها بمضامين هذه النماذج؟ هذا على افتراض أن هذا الأمر موجود لديهم.
المشهد تحول إلى ما يشبه سوق الخضار، والتنافس بين مراكز التدريب من هذه النوعية لاصطياد العدد الأكبر من المتدربين أصبح شبيهاً بالمزادات التي تقام للتدليل على البائع، بل وصل الأمر في عدد من المراكز في إطار اتفاقها المالي مع المدرب إلى التعامل معهم "على الرأس"!

ينسب إلى جوزيف غوبلز وزير الدعاية في عهد الزعيم النازي أدولف هتلر أنه كان يقول "أعطني إعلاما بلا ضمير أُعطِك شعبا بلا وعي"، وهو قول يدفعنا للقول: أعطني تدريبا بلا ضمير والتزامٍ بالمعايير المهنية، أعطِك جيلاً من الإعلاميين الفاشلين.

أيها الراغب في دخول مجال الإعلام واحترافه، لا غنى لك عن التدريب ومراكزه فهي أولى الخطوات لذلك، لكن أحسن الاختيار ولا تسعى لحرق المراحل، وقبل ذلك كله قف مع نفسك لحظة صدق واسألها: ما هو مستوى ثقافتي العامة التي تؤهلني لدخول المجال الإعلامي؟ واحذر من تجّار وجدوا فيك ضالّتهم لتسويق بضاعتهم الفاسدة.

التدريب ليس مجرد إعلان منمّق، أو عرض لـ"شرائح بوروبينت" بألوان جميلة وخطوط راقية، أو شهادة موسومة باسمك في نهاية الدورة مرفقة بـ"صورة سيلفي" مع المدرب الوسيم، التدريب علم وعمل، هو باختصار خبرة نظرية وتجربة ميدانية محكومة بمعايير علمية.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد