جمل مفتاحية :
"في لبنان يقاس عمر المرء بما عايشه لا بعدد السنين التي عاشها"
"يهاجرون كأسراب الطيور لكنهم لا يعودون أبدا حين ينتهي الشتاء"
كنت أمشي في شوارع مدينة طرابلس في لبنان أطالع الوجوه الشاحبة, وتلك الجباه المتعرقة, والأيدي التي تشققت من شدة التعب والشقاء، يتهامس الناس في أخبار التفجيرات والإرهاب, والبطالة والغلاء, وأزمة السير والخلافات السياسية.
هنا في فيحاء الشمال اللبناني قصص معاناة لا تنتهي، هنا حرب من نوع آخر حرب على البسمة التي لطالما زرعها اللبنانيون أينما حلواْ, لكن الأزمات أبت إلَّا أن تحارب اللبنانين وكأن قدر هذا الشعب أن ينتقل من حرب إلى حرب، فهنا في لبنان لا توجد استراحة للشعب بين الشوطين كما في لعبة كرة القدم.
مررت بأحد الباعة المتجولين، والذي كان هزيلًا نحيفًا لدرجة أثارت رعبي، فدعوت الله أن لا يغمى عليه أمامي لأن؛ طريق سيارة الإسعاف مسدود بمئات السيارات المتكدسة على الطرقات بعضها بلا أوراق ثبوتية وبعضها الآخر مرت عليه أعوام دون صيانة وسيارات أخرى جديدة, لكن الشيء الذي يجمع كل هذه السيارات على اختلافها هو فوضى الطرقات!!
البائع الجوال الذي وقفت عنده كان يصارع لهيب الشمس, وتعب الوقوف على قدميه لساعات, وتجاهل المارة لصوته المبحوح الذي ينادي عليهم ليشتروا, لكن صخب المتاجر الكبيرة ذات الأرباح الخيالية يعلو على أصوات الباعة الجوالين.
علمونا ألَّا نشتري من البائع الجوال فقد يكون الطعام ملوثا, لكنهم نسيوا أن يخبرونا بأن الطعام المستورد الذي يباع في المتاجر الكبيرة تقسم أرباحه بين جيوب المستثمرين الأغنياء, والشركات الأجنبية المصدرة, بينما يتخبط الباعة الصغار في شباك الفقر التي نسجها عنكبوت المنافسة الغير عادلة. هل من الضروري أن يفتقر بعض الناس حتى يغنى الآخرون !!! …
تأملت وجه البائع الجوال وأثار الزمن البادية عليه، قدرت عمره بالأربعين لكن وجهه يشي بأنه أكبر من ذلك بكثير, فهنا في لبنان يقاس عمر المرء بما عايشه لا بعدد السنين التي عاشها…
هنا في لبنان مقاييس أخرى فرضتها الأزمات, وقواعد شاذة نصبتها الخلافات الداخلية والإقليمية, فالكهرباء تدفع مرتين والمياه مرتين وحتى فواتير الهاتف الجوال تعبئ مرة بالدولارات ومرة بالأيام فلا يمكنك الإتصال إن لم تلبي الأمرين !! "ومش رايحة غير عالناس المعترين!" …
كان معي حقيبتي الجامعية، وقفت عند ذاك البائع الجوال لأشتري، رأى حقيبتي فقال لي: هل تسمح بأن أسألك شيئا؟ قلت: اسأل فإن استطعت جاوبت وإن لم استطع صمت، سألني: ماذا ستفعل بعد أن تُنهي دراستك؟ قلت له مثل بقية الشباب أفكر في السفر … تنهد تنهيدة طويلة كأنها إعصار خرجت من قلبه محملة برياح من الألم الذي لا يعرف الحدود، وطأطأ رأسه للأسفل كأنه سمع جملتي "سأسافر" لأول مرة في حياته مع أن تلك الجملة هي أكثر جملة يتداولها الشباب بعد التخرج! قلت له: هل تفاجئت؟ قال: لا, ثم أنزل رأسه للأسفل… أخذ نفسا عميقا وسألني: كيف ترى مستقبل البلاد؟ جاوبته بما يجول في قلبي: لست متفائلاً كثيراً -فكم سيتفائل طالب مثلي عايش ألم الناس في سوريا وفي لبنان- حيث يمر الناس بجميع أنواع المشاكل قبل أن يموتوا وهم بؤساء!.
وأنت؟… سألته كيف يرى مستقبل البلاد؟
قال لي : "وهل هناك من مستقبل لبلاد تسافر فيها الكفاءات!، يسافر خيرة شبابها… ويتركوننا نحن العُجَّزغير المتعلمين في هذه البلاد نعاني وحدنا!! ثم ماذا؟!!!! ….. ثم نلام على واقعنا المزري الذي لم نستطع تغييره… في حين أن من يستطيع تغييره من الشباب ما إن ينهي دراسته حتى يطير بعيدًا عن الخلية ويتركنا في مواجهة الدب!! يهاجرون كأسراب الطيور لكنهم لا يعودون أبدًا حين ينتهي الشتاء، وإن انتهى الشتاء وأشرقت الشمس فأمطار المصائب التي تقع علينا لا تنتهي -نحن الصامدون في هذه البلاد- التي يبحث الشباب فيها عن كل الأسباب التي تدفعهم للخروج ويتجاهلون كل ما يحفزهم على البقاء… بربك هل لهذه البلاد مستقبل ؟؟؟"…
نزل جوابه علي كالصاعقة لم أستطع أن أفتح فمي بكلمة … فلا رفعت رأسي موافقاً ولا أحنيته رافضًا … أعطيته ثمن ما إشتريت وهربت قبل أن يعيد إلى ما تبقى … حملت أنفاسي المتعبة المصدومة وجسدي الذي أنهكه التفكير في جواب غير الذي أعرفه ومضيت بعيدًا بعيدًا … حاولت الإبتعاد قدر الإمكان لكي لا أضطر للإجابة …. حاولت الهروب من الخنجر المغموس في صدر كل إنسان عربي … خنجر العجز .. عجزعن التغيير … فلو لم نكن عاجزين عن التغيير لما سافرنا أو ربما لأننا لسنا مستعدين لدفع ثمن فاتورة التغيير!!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.