أظهرت النتائج الرسمية للدورة الأولى من الانتخابات الإقليمية (مجالس الأقاليم) في فرنسا، التي جرت يوم الأحد في 6/12/2015، تقدّماً تاريخياً لحزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرّف برئاسة "مارين لوبين"، إذ حلّت الجبهة الوطنية في صدارة 6 من أصل 13 إقليماً، وحصلت على مجموع يقارب الـ28% من إجمالي أصوات الناخبين الفرنسيّين، متقدمة بذلك على الحزبين التقليديّين: الجمهوريّين (التسمية الجديدة لحزب يمين الوسط)، والاشتراكيّين (يسار).
ومهما كان العدد النهائي للأقاليم التي سوف يفوز بها حزب الجبهة الوطنية بعد الدورة الثانية من هذه الانتخابات المنوي انعقادها يوم الأحد المقبل في 13/12/2015، وبغضّ النظر عن مدى الصلاحيات التي تتمتّع بها مجالس الأقاليم (التطوير الاقتصادي، دعم الشركات التجارية، تنظيم المواصلات العامة، تنظيم التدريب المهني، بناء وصيانة الثانويات الرسمية وتأمين الخدمات فيها، صلاحيات متعدّدة في مجالات البيئة والثقافة والرياضة والسكن والمساعدات الاجتماعية)، فإنّ نتائج الدورة الأولى تظهر بوضوح تامّ أنّ الحزب اليميني المتطرّف أصبح الأوّل من حيث الشعبية في فرنسا.
أمّا الأسباب الأساسية لهذا التقدّم التاريخي، فيمكن إيجازها بالنقاط الخمس التالية:
1) هجمات باريس الأخيرة:
وهي السبب المباشر. فقد استفاد اليمين المتطرّف من أجواء الخوف والهلع والهستيريا الأمنية (في الداخل) والحربية (ضدّ داعش في سوريا) المخيّمة بقوّة على المشهد الفرنسي العامّ منذ هجمات باريس التي وقعت في 13 تشرين الثاني الماضي، مع ما رافقها من إعلان لحال الطوارئ التي تمّ تمديد فترتها حتّى 26 شباط المقبل بقانون، وتكثيف لعمليّات البحث والتوقيفات الادارية العشوائية دون إشارة قضائية مسبقة، ناهيك عن تعدّد حالات الوضع في الإقامة الجبرية، لاسيّما أنّ منها ما اعتبره القضاء الفرنسي تعسّفيّا. هذا بالإضافة إلى سلسلة من الإجراءات والتعديلات الدستورية والقانونية التي تسعى الحكومة الفرنسية لاعتمادها، كإسقاط الجنسية الفرنسية عن الإرهابيين الذين يحملون جنسيتين، وهي كلّها مشاريع تقترب عمليا من صلب طروحات اليمين المتطرّف.
فنظراً لهذه الظروف الاستثنائية، ربّما كان من الأجدر تأجيل الانتخابات الإقليمية إلى ما بعد انتهاء فترة حالة الطوارئ، لاسيّما أنّ سابقة من هذا القبيل قد حصلت في 12 يناير/كانون الثاني 1955، عندما قرّرت الحكومة الفرنسية تأجيل الانتخابات التشريعية في الجزائر، التي كانت وقتها مستعمرة فرنسية، وذلك نظرا لإعلان حال الطوارئ فيها بعد اندلاع الثورة التحريرية.
فنتيجة الانتخابات الإقليمية الأخيرة كانت متوقّعة نوعا ما، حتّى ولو أتت مفاجئة من حيث حجم فوز اليمين المتطرّف، إذ إنّه عادة ما تقوم الهجمات الإرهابية بالتأثير دراماتيكيا على التوجّه العامّ لدى الناخبين، وهو ما حصل سابقا في إسبانيا على إثر تفجيرات مدريد في 2004، قبل أيام من الانتخابات العامة التي أطاحت باليمين الحاكم وقتها، أو حتّى في بريطانيا بعد تفجيرات لندن في 2005.
2) أزمة اللاجئين:
وهي تشكّل أيضا مادة دسمة لليمين المتطرّف، إذ يستخدم صور اللاجئين المتدفّقين إلى أوروبا هربا من أهوال الحرب السورية لتغذية نظرية المؤامرة ومزاعمه الشعبوية وتخرّصاته حول "الاستبدال الكبير"، أي النظرية التي تنبّه من استبدال الشعوب الأوروبية، لاسيّما أنّها تعاني من ارتفاع كبير في أعداد المتقدّمين في السنّ، بشعوب مسلمة فتيّة. وهذه النظرية قد أرستها الكاتبة البريطانية اليهودية من أصل مصري، جيزيل ليتمان ـ أوريبي، في كتابها "أوريبيا" (وهي عادة ما تنشر كتبها تحت الاسماء المستعارة: "بات ييور" (أي بنت النيل في العبريّة)، أو "يهودية مصرية")، وذلك كما بيّنه "رافاييل ليوجييه" في مقاله "أسطورة الغزو العربي ـ الإسلامي" المنشور في "لو موند ديبلوماتيك"، والذي ينتقد فيه هذه النظرية ويفنّد أباطيلها. فمنذ صدور هذا الكتاب، وتبنّيه من قبل اليمين المتطرّف، وهذه النظرية تنتشر كالنار في الهشيم في البلدان الأوروبية، وتترسّخ تدريجيا في اللاوعي الجماعي، لاسيّما في الأدب الشعبي، مثلاً في رواية "خضوع" لـ"ميشال هويلبيك" التي لقيت مؤخّراً رواجاً استثنائياً.
LIOGIER (Raphaël), " Eurabia " ou l'impact fracassant d'un essai fumeux, Le mythe de l'invasion arabo- musulmane, Le Monde Diplomatique, Mai 2014, pp. 8- 9
BAT YE'OR, Eurabia : l'axe euro- arabe, Jean- Cyrille Godefroy Editions, 1ère édition 2006, 2e édition 2015
HOUELLEBECQ (Michel), Soumission, Flammarion, 2015
3) فشل السياسات الاقتصادية للحزبين التقليديّين:
يتمثّل هذا الفشل على وجه التحديد في عجز الحزبين التقليديّين، اللّذين يتناوبان عادة على السلطة (أي حزب الجمهوريين، والحزب الاشتراكي)، في إيجاد الحلول للخروج من الأزمة الاقتصادية المستشرية منذ 2009 (في عهد "نيكولا ساركوزي")، وفي معالجة انخفاض مستويات النموّ السنوية، وانكماش الاقتصاد، ومشكلة التضخّم، والمديونية العالية، وخصوصا أزمة البطالة المستفحلة. هذا بالإضافة إلى زيادة الضرائب من قبل الحكومات الاشتراكية المتعاقبة منذ انتخاب الرئيس "فرانسوا هولاند" في 2012، والتي خنقت الطبقة الوسطى.
فحتّى الناخبين التقليديين للحزب الاشتراكي فقدوا ثقتهم به، خصوصا بعد التغيير الحكومي الذي أطاح بالشخصيات المعروفة بميولها اليسارية الواضحة كـ"أرنو مونتبور" أو "أوريلي فيليباتي" أو "بونوا هامون"، والذي أتى بال"جناح اليميني" داخل الحزب الاشتراكي إلى الحكم، والمتمثّل برئيس الوزراء الحالي "مانويل فالس" ووزير الاقتصاد "إيمانويل ماكرون"، لاسيّما أنّ هذا الفريق ينتهج سياسة ليبرالية تختلف مع المبادئ والتوجّهات اليسارية التقليدية للحزب الاشتراكي.
كلّ هذا، بالإضافة إلى الشعور بعجز السياسة أمام عالم المال، وبأنّ القرارات الفعلية لم تعد تتّخذ على المستوى الداخلي، بل على مستوى الاتحاد الأوروبي الذي يعمّم قراراته على البلدان الأعضاء، يمكنه أن يفسّر النسبة القياسية لعدم المشاركة في التصويت (50%) التي أفسحت المجال واسعا أمام التقدّم التاريخي لليمين المتطرّف، مع إرادة الناخبين في معاقبة الأحزاب التقليدية بالتصويت ضدّ النظام السياسي القائم.
4) تطرّف خطاب يمين الوسط:
منذ 2007 على الأقلّ، تاريخ احتدام حملة "نيكولا ساركوزي" لانتخابات الرئاسة، يحاول يمين الوسط، المتمثل اليوم بحزب "الجمهوريين"، استمالة ناخبي اليمين المتطرّف باعتماده الكثير من أدبيّاته وأفكاره وطروحاته وتعميمها، ممّا من شأنه أن "يحرّر" الخطاب العنصري من القيود الأخلاقية، وأن يخرج بعض نزعات الكراهية كالكزينوفوبيا، والاسلاموفوبيا، وحتّى معاداة السامية من طابعها الاستثنائي، وأن يجعلها تبدو عادية في عيون بعض شرائح المجتمع. وقد فصّل كتاب "الانغلاق الكبير" هذا التغيير الحاصل في خطاب يمين الوسط، وتأثيراته السلبية على الحياة السياسية، وتداعياته الكارثية على النسيج الاجتماعي والعيش المشترك.
BANCEL (Nicolas), BLANCHARD (Pascal), BOUBEKER (Ahmad), Le grand repli, La Découverte, 2015
وبرفضه الآن الانسحاب من الدورة الثانية للانتخابات الإقليمية لصالح الحزب الاشتراكي، وبرفضه تجيير أصوات ناخبيه إلى مرشّحي الحزب الاشتراكي في المناطق التي يكون فيها هذا الأخير متقدّماً عليه (في ما يجب أن يكون محاولة لقطع الطريق على وصول اليمين المتطرّف)، يؤكّد حزب الجمهوريين مرّة جديدة تطرّف خياراته وتهوّرها.
5) دور الإعلام:
لاسيّما في التسويق، ولو غير المباشر، لخطاب اليمين المتطرّف، والدعاية لصالح شخصياته الأساسية. فلا يمرّ يوم واحد دون أن تستقبل وسيلة إعلامية أحد رموز الجبهة الوطنية، أو أن تنشر، من ضمن أخبارها، تحقيقا أو مقالا أو تحليلا يتعلّق بالمهاجرين، لاسيّما المسلمين منهم، أو حول الإسلام، وذلك من زاوية أمنية تشدّد، في أكثر الأحيان، على خطورة المسلمين المزعومة، أو تصوّر بعض عاداتهم ومعتقداتهم على أنّه تخلّف يمنعهم من الاندماج في المجتمعات الغربية.
أمّا الإضاءة على الهمّ الاقتصادي، الذي يشكّل المشكلة الأساسية، فغالبا ما يأتي في مرتبة أدنى من الأهمية في التغطية الإعلامية . فمن حقّنا اليوم أن نتفاجأ بتفاجؤ الإعلام الفرنسي والأوروبي الذي يبدو وكأنّه يصطنع دهشة أمام هذا التقدّم التاريخي لليمين المتطرّف، في حين أنّه، عمليا، لم يوفّر فرصة في الترويج له، ولو عن غير قصد.
فربّما من الأجدى لهذا الإعلام الفرنسي والأوروبي، بدل إعطاء دروس مجانية في الحرية وحقوق الانسان لبعض الشعوب الأخرى، وبدل انتقاد خياراتها الديمقراطية، كالضخّ الذي حصل مؤخّرا ضدّ نتائج الانتخابات التشريعية التركية، أن يراجع حساباته وأداءه، وأن يعيد ترتيب بيته الداخلي، وأن يهتمّ على وجه أولى بوضع الحريات والديمقراطية وحقوق الانسان في بلده، لأنّ انفلات اليمين المتطرّف على هذا الشكل في واحدة من أعرق ديمقراطيات العالم ليس دليل عافية ديمقراطية يمكن التغنّي والاستعلاء بها على الشعوب الأخرى، ولا يبشّر بالخير إطلاقا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.