بيان غاضب عنوانه “بينَ بينَ”

الكائن المغربي حمالُ أوجه في صميمه، يعيش حالة المنزلة بين المنزلتين، بل منازل شتى بين هاتين المنزلتين.. فتراهُ تارةً مُشرقاً يلمعُ وجههُ ابتسامة، يدب فيها عشق وزخم الحياة الهنيئة.. وتارةً أخرى تلقاه شخصاً ضنكاً، عامراً هماً، نكداً، وكربة تُلامس حد القلق الوجودي

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/09 الساعة 04:21 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/09 الساعة 04:21 بتوقيت غرينتش

مرّ وقت على حادث جرادة المفجع، الذي يعيد للأذهان والعقول موتاً أفجع منه، ذلك الذي حصد أرواح نساء بمدينة الصويرة المغربية؛ لتتلاحق تباعاً وإلى ما لا نهاية البلايا على الإنسان المغربي، ما يستوجب الحديث عنه، وهذا أقل الإيمان ما دام الصمت في وجه الظلم جرماً أعظم من جريمة الظلم نفسها؛ لهذا نقول:

الكائن المغربي حمالُ أوجه في صميمه، يعيش حالة المنزلة بين المنزلتين، بل منازل شتى بين هاتين المنزلتين.. فتراهُ تارةً مُشرقاً يلمعُ وجههُ ابتسامة، يدب فيها عشق وزخم الحياة الهنيئة.. وتارةً أخرى تلقاه شخصاً ضنكاً، عامراً هماً، نكداً، وكربة تُلامس حد القلق الوجودي، كغريق فرعوني يترقب، قريباً تلاقي البحر عليه، وطيّ السماء من فوقه إنه الهوى المُتقلب كفصل لقيط أوله خريفي قحط، ولكنه جامع في تفاصيله وأيامه حر الصيف مع برد الشتاء إلى جانب خضرة الربيع الناضرة.

هو الهوية المُعلقةُ بين متناقضات سوداء وبيضاء تغدو متلثمة بلون رمادي، تستحيل معه معرفة ماهية المغربي والحكم على وضعيته المعيشية: هل هو في مقام السعادة العليا أم في الدرك الأسفل من الشقاء؟

ففي أحايين كثيرة تتسللُ إلى خاطره سعادة الكون برمّته، فقط بفضل ركلة هدف معلقة في الهواء لفريق أحبه صدفة وبغتة دون سابق عشق.. أو انتصار منتخب يدعي مشاركته لوطنية هشة، ذابلة إلى حد الزيف والبهتان.

تعريفُ المغربي لا تعريفَ له: فهو ذلك المواطن الذي ينتحب ضحكاً على موت نسائه سعياً منهن لحلم عصيّ ملفوف وملغوم داخل قالب سكر في أرض "القوالب" بامتياز، وطمعاً منهن في قطرات زيت تسيلُ معها آخر قطرات الكرامة المغربية، وفي سبيل غبرة كيس من طحين بئيس، تتناثر فيه آخر حبيبات النخوة الإنسانية التي تدعي نفاقاً، إنها إسلامية، والإسلام منها براء.

يعلم المغربي بغريزته الغريبة علم اليقين أن لعبة القدر القذرة هي فقط من أخطأته؛ لتنزل على رقاب هؤلاء النسوة الشريفات، اللواتي حاولن بشرف مجابهة الحياة غير العفيفة الغادرة بغدر وعهر مسؤوليها، ومالكيها، ومُستبديها وجلاديها الذين كثيراً ما يتخنثون ويختالون في ثوب مُحسنيها.. والإحسان عليهن واجب في صيغة إعطاء الحق ورده لأهله.

ها هنا يعلم المغربي أيضاً في سريرة نفسه أن الدور قادم عليه وعلينا لا محالة لنتذوق بحلاوة مرارة الحياة، ونشوة انتصارها المظفر علينا: كيفما كنا، وقتما كنا، وأينما وُجدنا، هي مسألة وقت لا غير، ما دامت جيناتنا واحدة مُوحدة، ترفض دحر تشوهاتنا السياسية لنرفض بإجماع قدرها المفروض علينا، والمسلط على رقابنا أمداً طويلاً يبدو كأنه أبدي؛ لنتخلص نهائياً من قذارتها التي تحللت كأنها جثة عفنة، باتت تزكم الأنوف والأبصار أينما وليت وجهك ووجهتك.. فلتسألوا ذوي العلامات الحمراء في سياراتهم، هم أعلمُ بهذه الرائحة وكذا المذاق.. كيف لا وهم منبعها وطباخوها المهرة!

لهذا يستكين المغربي مرة أخرى لتناقضه العسلي المفضوح: فهو الذي غضب وأرعد لمقتل هؤلاء النسوة البارحة في تمام الساعة الحادية عشرة والنصف ليلاً، تجده في نفس توقيت اليوم يؤدي تعريفة قوامها ثمانية آلاف درهم على سهرة يُحييها كائن ينتمي قسراً وظلماً للفن، وهو ينهق كلمات لا تُميز فيها معنى أو إيقاعاً أو مقاماً، تستفز ذوقك لدرجة الغثيان، وتدفعك لتصدح ملء فيك مُتبتلاً داعياً: رحماك إلهي من هذه العدمية، هذه العبثية التي تبعثُ على الاشمئزاز.

في هذه الدوامة كلها لا تملك لعقلك ونفسك إن بقي فيهما ذرة طمأنينة، إلا أن تستعيد جُرحك الغائر، الذي لازمك منذ رأيت مشهد النساء الميتات في سبيل فُتات الحياة الظالمة.

لا يسعك إلا أن تخاطبهن والفؤاد ينزف حسرة قائلاً: سيداتي المشمولات بنصر ملكوت الله ورحمة رب السماوات، أطلب منكن الصفح والغفران؛ لأنني كتبتُ عليكن وإليكن متأخراً.

لكن تأكدن يقيناً أنها ذكرى أبدية، لكُنَّ أنتن ولنسوة هذه الأرض المغربية المعذبة كافة، الشريفات العفيفات الرافضات أن تتلطخ طهارتهن بأوحال أصحاب القرار، التمسن العُذر لي، فجُرحكن أخذ زمناً طويلاً وهو للقلب يعتصر ولتوه اختمرَ، ليغدو عاراً أزلياً على جبيننا -نحن الموجودين- مجازاً، شبه الأحياء..

فاشهدن عليّ أنا وكل كائن مغربي، تبين أنه انفلت سالماً من رحلة الـ"بينَ بينَ" المشؤومة، واختار طريق الوفاء لأرواحكن البهية الغراء.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد