كلمة مباركة طالما سمعناها (يا أول لا من قبل آخر، ويا آخِر لا من بعد أول، فذاك في ذاك، فقف أيها العقل عند منتهاك).
نعم.. للعقل منتهى لا يستطيع أن يجاوزه ولا أن يأتي على ما بعده، فالزم أيها العقل مداك، وقِف عند منتهاك.
في بداية حياتي العقلية والفكرية، نالني ما نال الكثيرين من هوس التفكير في ذات الله، والأسئلة التي تطرأ دائماً على كثير من العقول في مثل هذه السن وهذه المرحلة.
كيف كانت بداية الله؟ ومتى كانت؟ وكيف يكون موجوداً بذاته لا بغيره؟ وأين مكانه؟ وكيف شكله؟ وكيف يطّلع على جميع مخلوقاته في نفس الزمن وذات اللحظة؟ وكيف لا يحيطه الزمان ولا المكان؟
وكنت لا أرضى بأن أدفع التفكير عن نفسي مخافة الزلل والشطط؛ بل كنت أترك لنفسي العنان، أحاول جاهدا أن أتبين الأمور، وأن تكون عقيدتي وقناعاتي نابعة عن يقين عقلي واستدلال منطقي.
وظللت على هذا الحال إلى أن أهداني أحد إخواني كتاباً بعنوان (حقيقة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن) للشيخ نديم الجسر، وتلقفت الكتاب بلهفة، إلا أن أستاذي وشيخي ساعتها أوصاني بعدم قراءته؛ لأنه سيزيد حيرتي وتساؤلاتي، ولكني صمَّمت على قراءته ودراسته.
وأشهد بالله أن إيماني كان بعد قراءة هذا المجلد على غير ما كان قبل قراءته، وأنا مدين لهذا الكتاب بأنه قد فتح أمامي باباً للعلم واليقين، وكان مفتاح هذا الباب هو: الزَم أيها العقل مداك.. وقِف عند منتهاك.
يجادلنا غلاة العلمانيين فيما نذهب إليه من وجوب تحكيم شرع الله، مدّعين أن شريعة الله التي ننادي بها هي شريعة لعصر الناقة والجبال والرمال، أما عصر الصاروخ والذرة والفضاء، فيجب أن تجتهد له عقول أهله لإنتاج ما يجب أن يسيّر حياتهم فيه.
أي عقول هذه التي تريدونها أن تصوغ لكم؟! تلك العقول التي عجزت عن أن تدرك كُنه ذاتها، وتريدونها بعد ذلك أن تصوغ لكم الدساتير والقوانين التي تسير بكم نحو الخير والأفضل.
حتى الآن لا تعرف العقول ما هي العقول، ولا كيفية عملها.
يا عقل غلاة العلمانيين.. الزم مداك وقِف عند منتهاك.
حاورت أخي ذات يوم في قضية من القضايا، وذهب كل منا في هذه القضية مذهباً غير الذي ذهب إليه الآخر، وأخذ كل منا يستغرب من الرؤية الأخرى ويسخر منها، مدعياً أن الذي ذهب إليه هو، هو الحق الذي لا مراء ولا شبهة فيه.
قلت ساعتها لنفسي: أي عقول هذه التي نعتمد عليها لتبصّرنا بالحق من الباطل وبالخطأ من الصواب، وهي التي لا تتفق على قضية بسيطة من قضايا كثيرة، بل ونبالغ في إيماننا بعقولنا إلى الحد الذي نتجرأ به على الله وشرعه ورسوله؟
زاد يقيني ساعتها أن هذه العقول ومهما بلغت في نضجها وعبقريتها، ليس لها إلا الاهتداء بنور الله ووحيه في كل رؤاها ومقرراتها.
فيا أيها العقل الفقير إلى هداية الله.. الزَم مداك وقِف عند منتهاك.
كم من القناعات التي ذهبنا إليها ثم راجعناها بعد مدة من الزمن، فرجعنا عنها وعدنا إلى غيرها من القناعات؟! وكم من المسلَّمات التي كنا نجد أنه لا يماري في التسليم بها إلا كل مجادل جاهل، ثم تبين لنا بعدها أنها مسلمات خاطئة، وأصبحنا ننادي بضدها مناداة المسلّمين بها تسليماً لا ينقص عن تسليمنا يوماً بالتي عدلنا عنها؟!
هكذا عقلنا.. من أمر إلى ضده، ومن رأي إلى نقيضه، ومن مسلّمة إلى مقابلها، كيف لهذا العقل أن يؤتمن على التقنين والتشريع للحياة بعيداً عن شرع الله وهدايته.
أيها العقل الزم مداك.. وقف عند منتهاك.
في حوار مع سيدة هي أحد أقطاب التيار العلماني المتغرب، وهي معروفة بمسارها المضاد المعتمد على الرفض شبه المطلق للنص في مقابل إطلاق العنان الرحب للعقل.
تسألها المحاورة: هل ترين في القرآن بعض الظلم والجور؟
فتجيب المرأة بكل ثقة وغرور: في بعض صفحات القرآن أرى عدلاً وحكمة، وفي بعض صفحاته الأخرى أرى ظلماً وجوراً.
أي عقل هذا الذي يترك لنفسه العنان -وهو العقل الناقص العاجز المعتم- ليحاكم الذات الإلهية التي تمثل الحكمة المطلقة والعدل المطلق والكمال المطلق.
يا عقل كل المتجرئين على الله.. الزَم مداك وقِف عند منتهاك.
* قصة قصيرة كتبتها عن مشهد حقيقي حدث معي، وهي باختصار قصة قطتين صغيرتين في منور منزلنا، أخذتا تموءان وتصرخان من شدة الجوع والعطش، وأنا أظن أن مواءهما لأمر آخر، ثم انقطع المواء بعد يومين، ثم عاد مواء إحداهما فقط، عاد متقطعاً ضعيفاً، فأسرعت إلى أعلى المنزل أتبين، فإذا بالمشهد الذي آلمني وأذهلني.
قطتان صغيرتان أذبلهما الجوع والعطش إلى الحد الذي جعلهما جلداً على عظم؛ واحدة منهما ماتت جوعاً، والأخرى تقف بجانبها ناظرة إلى السماء صارخة متضرعة، تبكي أختها وتسأل عن منجد رحيم.
مشهد أذهلني وزلزلني، تعالت آهاتي وسالت عبراتي وردد لسان حالي: أين أُمكما؟ أين ربكما؟
ثم عدت إلى نفسي، عودة العارف بربه وعدله ورحمته، والعارف بعجز عقله عن الإدراك الكامل لأبعاد المشهد والموقف.
وهتفتُ ساعتها: الزم أيها العقل مداك.. وقف عند منتهاك.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.