يعيش المشهد السياسي المغربي حالة فراغ من جانب في الأسئلة الكبرى الموجهة للمرحلة في العلاقة بالانتقال الديمقراطي وعلاقة الدولة بالمجتمع ورهانات اللحظة في سياقات تراجعية متأثرة بالجمود أو النكوص الذي طال كل الإقليم في مسار الربيع العربي برمته.
هذا الفراغ عوضه اهتمام موسع بقضايا أخرى أضحت تجد لها اهتماما كبيرا لدى الرأي العام، إما بصراع إيديولوجي هامشي بين جملة المكونات بين الإسلاميين واليسار حول قضايا قديمة، أو سؤال الحريات الشخصية لشخصيات برلمانية كما حدث مع برلمانية تنتمي إلى حزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة والتي تم إظهار صور لها بدون زي الحجاب، إضافة إلى عودة بنكيران للمشهد السياسي من خلال خرجاته المتكررة، مفارقات خطابه السياسي وخرجاته المتكررة حالة شد وجذب لدى الرأي العام.
هذا الواقع المتمثل في إهمال الإشكالات الرئيسية التي والتعلق بما هو دونها يطرح أهمية مساءلة الدواعي التي جعلت الواقع السياسي في حالة جمود وتراجع، وهو جمود ملازم لكل مراحل إجهاض الانتقال الديمقراطي، حيث تبرز جملة من التوترات في المجتمع، كرد فعل تعبر من خلاله مختلف الفئات بأسلوبها المتجاوز للأنساق التقليدية، التي عملت في راهننا الحالي على العودة إلى واقع ما قبل 2011، وفي حمى الجمود يكمن صراع وترقب نحو أفق سنة 2021، مع إغفال تام لمخاطر الجمود الحاصلة التي توازيها حركة وعي مجتمعي عبرت عن نفسها في الكثير من اللحظات.
ما الدواعي التي جعلت المشهد السياسي المغربي في حالة جمود وعطل؟ وكيف يمكن المخرج من حالة الترقب الحاصلة؟
1) مراحل إجهاض الانتقال الديمقراطي في السياق المغربي.. لمحة تاريخية
إن المغرب يملك في رصيده السياسي مراحل متعددة أخلف فيها موعده مع الديمقراطية والانتقال إلى عهد سياسي حديث يتجاوز فيه حالة التعثر، حيث لم يبرح المغرب مكانه من حيث تطور النسق السياسي منذ الاستقلال مع حكومة عبدالله إبراهيم إلى التوافق القصير زمنياً الذي طبع علاقة المؤسسة الملكية مع باقي القوى الوطنية، إذ كانت الصحراء المغربية دافعا إلى ذلك التوافق مع اتفاق شبه معلن عن تحقيق انتقال ديمقراطي من خلال شرعية انتخابية تؤدي إلى تقاسم السلطة بما يعكس التوازنات السياسية لتلك المرحلة، ويكون بذلك تصحيح للخلل الذي حصل مع إعفاء حكومة عبدالله إبراهيم، وما تلا ذلك من انسداد الأفق السياسي لا تزال ارتداداته إلى الآن.
لكن ذلك لم يحصل إذ تم إجهاض ذلك التوافق الذي حصل مع حزب الاتحاد الاشتراكي في المهد مع هيمنة ما يسمى أحزاب الإدارة القريبة من السلطة على المشهد السياسي، ما سيجعل حالة الجمود والعتمة تستمر إلى حين حكومة التناوب مع الزعيم اليساري عبدالرحمن اليوسفي نهاية التسعينيات، وهي الحكومة التي علقت عليها آمال تحقيق الانتقال الديمقراطي.
لكن ذلك لم يحصل إذ تم التراجع عن مسار الانفتاح السياسي الذي كان قد سلكه المغرب ليدخل مرحلة الانتظار مرة أخرى، وهو ما سيجعل سياق الربيع العربي مع حكومة عبدالإله بنكيران زعيم حزب العدالة والتنمية سابقاً يجعل طبيعة النقاش السياسي مهجوساً بتلك الرهانات الكبرى التي أخلف معها الموعد منذ دستور سنة 1908 حيث دشن المغرب عهد الحركة الدستورية تفاعلا مع نضج الوعي الدستوري في كامل العالم الإسلامي لتحديث النظم السياسية.
هذا المناخ السياسي الجديد الذي افتتح مع الربيع العربي لم يستمر طويلاً، حيث عرف هو الآخر تراجعاً مع إعفاء عبدالإله بنكيران الذي حاز حينها شرعية انتخابية من تشكيل الحكومة وإسناد المهمة إلى الرجل الثاني في الحزب "سعد الدين العثماني"، وكانت السمة البارزة من الإعفاء هو التخلص من شخصية سياسية كانت تحدث الكثير من القلاقل في المشهد السياسي، بالإضافة إلى النجاحات المتراكمة التي حققها في العملية السياسية برمتها بفعل خطابه السياسي وتصدره مشهد التدبير والمعارضة معاً لما يسمى "الدولة العميقة" أو من كان يطلق عليهم هو نفسه معارضو الإصلاح بلغة كليلة ودمنة، أي بالإيحاء والرموز واستعارة أسماء الحيوانات "تماسيح.."، للتعبير عن القوى المقاومة للإصلاح أو المعارضة له داخل النسق السياسي برمته من لوبيات الاقتصاد والسلطة وغير ذلك، وهي التي كان سماها الدكتور محمد عابد الجابري جيوب مقاومة التغيير حين وصف واقع المعارضة التي كان قد لقيها عبدالرحمن اليوسفي، وهي حسب تعبيره قد لا تكون في البرلمان أو المؤسسات أو الأحزاب، لكن تأثيرها أكثر ممن هم في المؤسسات، بل هي التي تمسك زمام صنع القرار.
خلف هذا التوتر انعكاساً في المجتمع وارتدادات في المشهد السياسي، لكن السمة الغالبة هي حالة التراجع وضعف فعالية القوى السياسية في استيعاب حركة المجتمع واحتجاجات الهامش التي عبرت عن وعي جديد متفلت يطالب بالعدالة في التوزيع ويواجه الشطط الملازم لحالة التهميش الذي طال مدن الهامش من الريف إلى جرادة وغيرهما، دون أن نغفل عن الاحتجاج الصامت الذي خلقته حركة المقاطعة لماركات تجارية يزاوج أصحابها بين السلطة والمال، في مشهد نادر يصعب ضبطه والتنبؤ بمجرياته.
2) دواعي وأسباب جمود المشهد السياسي المغربي
كانت هناك سمة بارزة في سياق الربيع العربي مع حكومة عبدالاله بنكيران هاجسها الكبير سؤال الانتقال الديمقراطي، وفي السنتين الأخيرتين برزت هواجس أخرى متمثلة في أسئلة العدالة الاجتماعية وإشكالات التنمية مع احتجاجات الريف وجرادة، ومواجهة غلاء الأسعار ونزعة الاحتكار من خلال مقاطعة بعض السلع، وهي سمة تعبر عن وعي متجاوز للقوى السياسية التقليدية من جهة، ثم إن شعاراته اتجهت مباشرة في علاقة الدولة بالمجتمع لما غابت أدوار الأحزاب والقوى السياسية والمدنية. وفيهما معا كانت أسئلة الديمقراطية والعدالة والحرية تعرف حضورها الطاغي، وتنسج على منواله آمال مجتمعية متعددة، لكن ذلك عرف ضمورا ليعوضه الانشغال بجملة من الهوامش يمكن أن نشير لدواعي طغيانها على المشهد الحالي بعدة أسباب أو دواعي.
تراجع دور الأحزاب والمجتمع المدني والنكوص عن الخيار الديمقراطي، يجعل الدولة في مواجهة الشارع مباشرة، إذ إن الأحزاب والمجتمع المدني يقومان بدور الوسيط بين الدولة والمجتمع، فتكون غاية الأحزاب ممارسة السلطة وصياغة ملامح السياسات العامة التي تعكسها رؤى تلك الأحزاب المخول لها تنفيذ برامجها بمقتضى شرعية الانتخاب، أما المجتمع المدني فإنه يقف حاجزا أمام تغول الدولة والمؤسسات في الدفاع عن المجتمع والتعبير عن مطالبه واستيعاب مبادراته، ودوره محوري في النظم الديمقراطية، بل إنه صمام النهوض ومن خلاله تبرز فعالية المجتمع.
إن التراجع عن صيرورة الانتقال الديمقراطي تدفع المجتمع إلى فقدان الثقة بالعملية السياسية برمتها، ومن ثم فإن الأحزاب تصبح متجاوزة كما هو حاصل مع الوعي المتنامي بين مختلف الشرائح الاجتماعية، لاسيما أن أفق الخطاب السياسي للأحزاب لا يستوعب هواجس المجتمع الاجتماعية منها والسياسية، ولا يتحمل مدى الجذرية التي أضحت تنتشر في الوعي المجتمعي الذي أضحى مشبعاً برهانات الدمقرطة والتنمية، وأصبحت له جرأة أكثر في مساءلة البنى المعيقة للانتقال الديمقراطي وتحقيق التنمية، وهي الجرأة التي تفتقدها الأحزاب التي خضعت في أغلبها للتدجين، وفي حالة حزب العدالة والتنمية وبعض الأحزاب الأخرى ذات النشأة الوطنية، تفتقد إلى أطروحة سياسية تعكس حالة المد الديمقراطي إلى منتهاه في علاقة الدولة بالمجتمع، إذ شكلت ولادة الحكومة الحالية بما لا يعبر عن الآمال التي تم تسويقها في الخطاب الانتخابي إجهاض الأمل برمته في عملية الدمقرطة، او لنقل إنها تفتقد إلى الجرأة في الموقف السياسي من جملة قضايا راهنة.
أما المجتمع المدني في المغرب أو غيره، فإنه لا يعكس طبيعة النشأة التي برز من أجلها المجتمع المدني في السياق الغربي، ومؤشر ذلك، أن نسبة كبيرة من الفعاليات المدنية ذات صلة بالسلطة من جهة، نشأت في حضنها وكنفها، ومنها ما هو على علاقة بالأحزاب والفعاليات السياسية نفسها، وبالتالي فإنه ينفذ منظور رجل السلطة أو السياسي وليس متطلبات المجتمع، وهو ما يبرز في الدور الغائب في العلاقة بالحريات والاحتجاجات والحقوق وغيرها، ناهيك عن أفق الديمقراطية الذي يسمح بإشاعة نفس الحرية ومن ثم فعالية المجتمع بدون رقابة أو تطويع من أعلى.
تراجع دور المثقفين والنخب، وهنا نلمح إلى أن حالة الشتات في النقاش السياسي العام يسائل مدى إسهام المثقفين في القضايا التي تهم قضايا المجال العام، ومستويات رصد النخبة نقدا تفاعليا وتوجيها نحو الإشكالات الرئيسية، وهنا نأتي على رأي إدوار سعيد الذي يعتبر أن "المثقف هو الذي يقول الحقيقة للسلطة"، والحقيقة بطبعها مؤلمة تلمح إلى ملامح الخطر وتهد النزعات الشمولية التي قد تتلبس الماسكين بالسلطة، ودور المثقف نقدي بطبيعته، يوجه الاهتمام لأسئلة المرحلة مسنودا بوعي تاريخه يمده برؤية مركبة تدفع إلى مجابهة نزعة التسطيح الجارف الذي يمكن أن تخلقه وسائل الاتصال أو الإرادات التي تنزع إلى التراجع عن خيارات الديمقراطية والحرية والمواطنة.
إن المشهد السياسي المغربي عرف شبه استقالة للنخب والمثقفين، أحيانا كثيرة ليس تجنبا للجدل في الشأن السياسي باعتبارها يصطبغ بصبغة اليومي المتغير، وإنما بالانصراف كلية عن الأسئلة التي تهم المواطن والفضاء العام، فيمكن القول أن الامتيازات التي قد تكون للسياسي يخشى فقدانها، قد تكون نفسها عند جملة من المثقفين في التهافت حول امتيازات وفتات هنا وهناك، وأحيانا أخرى تخوفات من طرح الأسئلة الراهنة بما يعكس القلق الذي يجب أن يعبر عن المثقفين باعتبارهم الطليعة الواعية، بل إن وجه الغرابة أن تجد النزعة المحافظة تسكن الكثير من الكتاب والباحثين في مناهضة لروح العصر، أي الحرية والديمقراطية.
ختاماً: إن راهنية المشهد السياسي المغربي المصطبغة بحالة الجمود، نظراً لغياب أدوار الفاعلين من قوى سياسية ونخب وتراجعات من الدولة عن الخيار الديمقراطي، تنذر بمخاطر اجتماعية وسياسية جمة، ومن ثم فإن حالة الفراغ والشرود التي تبرزها القضايا التي تشكل شغلاً شاغلاً للإعلام في اللحظة الراهنة، هي تعكس إخفاقاً مرتفع الكلفة إذا قمنا بمقارنته بكلفة الانتقال الديمقراطي الذي تتحقق معه تنمية تطال كل المجتمع، إذ إن المجتمع إذا لم يتم استيعاب قضاياه وهواجسه من خلال البنى والمؤسسات، فإنه يبدع في ميكانيزاته التي تتجاوز الأنساق التقليدية، ومعلوم أن تجاوز الوعي المجتمعي لتلك البنى التقليدية والدولة ذاتها، يحمل رسائل سلبية.
ومن ثم فإن التتويه بأدوات الإعلام وإغراق الرأي العام في تفاصيل لا تتصل من قريب أو بعيد بالقضايا الرئيسة ليس مخرجا للمأزق الذي تعيشه مجتمعاتنا، إذ إن المخرج الذي ينبغي أن يتنبه له الجميع ويسهم في إذكاء الوعي بشأنه، هو أين نحن من الديمقراطية والانتقال الديمقراطي؟ أين نحن من إشكالات التقدم والعدالة؟ أين نحن من الحرية وترسيخ دولة الحق والقانون وليست دولة أصحاب الحظوة مقابل فئات تتقاسم وضعية التفقير واللاعدالة والتهميش.
إن أسئلة الديمقراطية مرتبطة ارتباطا وثيقا بمناخ سياسي حديث يستوعب قيم العصر السياسية، وهي لن تتحقق بالمنطق الذي بدأ يظهر به بنكيران في الآونة الأخيرة، حيث يحمل خطابه السياسي جملة من التوترات والمفارقات تصل إلى حد التناقض، بين جبة الحداثي المدافع عن الحريات والذي يمكنه أن يتصدر جبهة موسعة تضمن الحق في الاختلاف والحريات الفردية؛ وهو منظور حداثي تتطلبه مجتمعاتنا في الزمن الراهن، مقابل نزعة سلطانية تمتح جوهر رؤيتها من الثقافة السلطانية العتيقة بما يناقض الوعي السياسي المتنامي، ويعبر عن تناقض في أطروحته السياسية، والتي يمكن أن نتوقف معها مستقبلا مع جملة التوترات الكامنة في خطاب حزب العدالة والتنمية المغربي.
ويكفي القول هنا، إن الحرية كقيمة برزت في سياق العقد الاجتماعي، برز معها التفكير في الديمقراطية من منطلق تشكيل نسق سياسي متجاوز للمنطق العتيق الذي كانت عليه شكل الحكم حينذاك، ومن ثم فإن التحديث يقتضي تجاوز الخطاب والثقافة السلطانية، والاندماج في الأسس والمبادئ التي تنظم شكل السلطة المسيجة بالقانون أو الدستور، وهو الذي كانت عليه نخبة سنة 1908 وهي تكتب دستورها آنذاك، وفي لا وعيها تجاوز البنية التقليدية والانخراط في العصر، أي الانتقال إلى الملكية البرلمانية.
هذا الرهان من التحديث السياسي في جبهة الديمقراطية إلى جانب تحقيق بعض أوجه العدالة والكرامة، وتحقيق الحريات، هي ما يمكن أن يطلق حركية جديدة تتجاوز الجمود الحاصل..
إلى موضوع آخر
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.