كانت في السادسة والعشرين من عمرها عندما انتقلت إلى مدينة بورتو البرتغالية، اسمها جوان رولينغ، شابة إنجليزية مفعمة بحب الحياة والأدب، حاصلة على ليسانس اللغة الفرنسية وكلاسيكيات الأدب من جامعة إكستر، عملت لبعض الوقت مع منظمة العفو الدولية، وعندما قرأت إعلانا في صحيفة ذا غارديان عن حاجتهم في البرتغال إلى مدرسة إنجليزية كلغة ثانية، قررت خوض غمار التجربة، خاصة بعد بقائها وحيدة إثر صدمة وفاة والدتها، فسافرت إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، محملة بطموحاتها وأحلامها ومشروع رواية ألحت عليها لكتابتها.
فعلا، بدا أن كل شيء سيكون على ما يرام، تكتب صباحا، على أنغام كونشيرتو الكمان لتشايكوفسكي، حالمة بإنهاء مسودة روايتها الأولى، وتعمل مساء، ومن حين إلى آخر تروح عن نفسها ليلا في حانة قريبة.
كل البشر يقعون في الحب، ولأسباب قد تكون غريبة للغاية، لكن عندما يتعلق الأمر بالأدباء، فالمسألة هنا تختلف.. ذات يوم قابلت صحفيا تلفزيونيا برتغاليا يدعى خورخي أرنتيس، تحدثا لبعض الوقت، فاكتشفا أن لديهما اهتماما مشتركا بالروائية البريطانية الراحلة جين أوستن. قد يبدو الأمر غريبا بالنسبة للبعض، لكن هذا الاهتمام المشترك بصاحبة "العقل والعاطفة" كان مقدمة لإعجاب متبادل، ثم حب، فزواج جرت مراسيمه يوم 16 أكتوبر 1992!
مهلا، لسنا هنا أمام فيلم سينمائي رومانسي تنتهي أحداثه بزواج البطلة من البطل، وعيشهما في سعادة وهناء.. لا، الاختبار الحقيقي للحب يبدأ بعد الزواج، لا قبله!
لم يدم هذا الارتباط الذي بدأ مفعما بالأحلام سوى ثلاثة عشر شهرا فقط -طبعا المؤمنون بالأساطير والتطير سيربطون بين هذا الأمر والنظرة الغربية المتشائمة من الرقم الثالث عشر!- فقد عانت الشابة من تسلط زوجها وعنفه المبالغ فيه، بما يتعارض تماما مع صورته كمثقف متفتح قبل الزواج، ورغم ولادة طفلة سمتها والدتها جيسيكا، في 27 يوليو 1993، إلا أنها لم تتمكن من إنقاذ علاقة انتهت بجرها خارج المنزل وصفعها بقوة.
بحلول ديسمبر 1993، لم تجد جوان بدا من حمل ابنتها جيسيكا والعودة إلى إدنبرة في إسكتلندا، للبقاء بجانب شقيقتها، فوجدت نفسها أمام حقيقة بالغة القتامة: إنها أم عازبة، عاطلة عن العمل، تعيش على الإعانات، ولا تحمل في حقيبة سفرها سوى آلة كاتبة قديمة وثلاثة فصول من مسودة روايتها. بعد سبع سنوات من تخرجها، اعتبرت جوان أنها أكثر شخص فاشل عرفته، ودخلت في حالة اكتئاب سريري كادت أن تؤدي بها إلى الانتحار، لكن بعد تفكير عميق ومواجهة صريحة مع النفس، شعرت بأنها تسير بحياتها إلى الهاوية، فقررت وضع حد لخسائرها، والتصميم على البدء من جديد.
حصلت في البداية على الطلاق من زوجها -الذي حاول في وقت من الأوقات اللحاق بها ومضايقتها في إسكتلندا- ثم واصلت كتابة روايتها متنقلة بين المقاهي، فهذا التنزه كان أفضل وسيلة لمساعدة طفلتها على النوم، ثم تمكنت أخيرا من إنهاء روايتها الأولى الموجهة للأطفال، وحملت عنوان "هاري بوتر وحجر الفلاسفة".
لكن الطريق لم تكن مفروشة بالورود كما تمنت جوان..
بناء على رد الفعل الحماسي لقارئ طلب منه تقديم تقرير عن أول ثلاثة فصول من الكتاب، وافق وكلاء أدبيون من وكالة كريستوفر ليتل ليتراري بفولهام على تمثيل الكاتبة، وتم تقديم النسخة المكتوبة على الآلة الكاتبة إلى اثنتي عشر دار نشر قامت جميعها برفضها، حتى كاد اليأس يتسرب إلى جوان، قبل أن توافق دار بلومزبري فجأة على نشرها بعد عام، لسبب بسيط يتلخص في تحمس آليس نيوتن، ابنة مدير الدار للكتاب بعدما سلمها والدها نسخة من المسودة طالبا رأيها، هي الطفلة التي لا يتجاوز عمرها ثمانية أعوام!
تسلمت جوان مبلغ 1500 جنيه إسترليني كمقدم، مع نصيحة من محرر الدار بضرورة البحث عن عمل صباحي، نظرا لصعوبة الاعتماد على كتب الأطفال كمصدر وحيد للعيش، لكنها سرعان ما تلقت منحة ب 8000 جنيه إسترليني مجلس الفنون الإسكتلندي لتمكنها من مواصلة الكتابة.
نشر الكتاب في يونيو 1997، وخمسة أشهر بعد ذلك حصد جائزة نستلة سمارتيز، ثم جائزة كتاب العام المرموقة للكتب البريطانية، ثم عقد مزاد علني في الولايات المتحدة الأمريكية للحصول على حقوق نشره، لتضيف جوان إلى رصيدها مبلغ 105 ألف جنيه إسترليني لم تكن لتحلم بعشرها قبل أشهر قليلة!
حطمت سلسلة هاري بوتر كل الأرقام القياسية للمبيعات، وحصدت معظم الجوائز المخصصة للأطفال، لدرجة جعلت جوان نفسها تنسحب من المشاركة في بعضها لتمنح الفرصة لأعمال أخرى، ثم انفتحت السلسلة على السينما بالشكل الذي يعرفه الجميع مع الشهرة الواسعة التي حققتها السلسلة ببطولة الممثل دانيال رادكليف، فكانت تلك نقطة التحول التي قفزت بجوان رولينغ إلى مصاف المليارديرات، كأول من تصل إلى هذه المرتبة اعتمادا على الكتابة فقط!
لم تمنع أضواء الشهرة والثروة جوان من الانفصال بشكل تام عن ماضيها، فقد خصصت جزءا مهما من ثروتها الطائلة للأعمال الخيرية المرتبطة بمحاربة الفقر وعلاج الأمراض المستعصية وتشجيع الأطفال على القراءة، تزوجت مرة أخرى من طبيب تخدير، وأنجبت طفلين آخرين، ثم نظرت إلى حياتها السابقة بعين متفحصة، فقررت أن تشارك العالم تجربة حياتها، وتحدثت عنها في إحدى محاضرات تيد الشهيرة تحت عنوان "المزايا الإضافية للفشل" قائلة:
"عنى لي الفشل التخلص من كل ما هو غير ضروري. توقفت عن القول لنفسي أنني أي شيء آخر عما أنا في الحقيقة، وبدأت أوجه كل طاقتي لإنهاء العمل الوحيد الذي كان يهمني. إذا كنت نجحت في أي شيء آخر، ربما لم أكن لأعثر على التصميم على النجاح في المجال الوحيد الذي انتميت إليه حقًا. لقد تحررت؛ لأن ما كنت خائفة منه تحقق، وكنت لا أزال على قيد الحياة، ولا يزال لدي ابنة أعشقها، وآلة كاتبة قديمة وفكرة كبيرة؛ وهذا شكّل أساسا صلبا لأعيد بناء حياتي عليه…"
– تم نشر هذه التدوينة في موقع مدونات الجزيرة
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.