في مدينة ليوبن النمساوية حيث يتجمّع عدد من الطلبة المسلمين واللاجئين السوريين تحرص عشر عائلات تركية على فتح مطابخها بشكل استثنائي خلال شهر رمضان للجالية المسلمة.
وذلك من خلال توفير وجبات الإفطار بشكل مجاني تشرف على طهوه نسوة تركيات يقلن إنه تقليد عائلي عريق يحرصن على ترسيخه جيلاً بعد جيل في هذه المدينة ذات الأقلية المسلمة.
200 مفطر يومياً
قبل موعد الإفطار بساعات تفوح روائح زكية من مسجد "أتيب ليوبن" حيث يتحوّل الطابق العلوي لمطبخ رمضاني، والباحة المقابلة تُفترش بعشرات الموائد لتصبح مكاناً جماعياً مخصصاً للإفطار.
ويقول إمام المسجد السيد مصطفى يوزر وهو تركي الجنسية مقيم في هذه المدينة منذ سنوات لـ"عربي بوست"، إن تقليد موائد الإفطار الجماعي في رمضان في هذا المسجد اقتصر في البدايات على عشرات من الجالية التركية المسلمة لتتسع رقعته إلى الطلبة العرب بحكم وجود حي جامعي تشتهر به مدينة ليوبن.
ثم مع تدفّق المئات من اللاجئين السوريين، قرّر المشرفون على هذه البادرة الإنسانية توسيعها لتشمل أكبر عدد ممكن من المسلمين في المدينة، حيث يبلغ عدد المستفيدين من هذه المائدة الرمضانية قرابة 200 شخص يومياً.
وتقوم سيدتان تركيتان بالإشراف العام على سير عملية الطهو بكل مراحله، فيما تتكفّل نسوة أخريات وبعض الشابات بالمساعدة في تقطيع الخضار والدجاج واللحم وتحضير الأطباق وتحرص هؤلاء النسوة كل الحرص على عدم الكشف عن هويتهن باعتبار أن ما يقمن به هو عمل تطوعي وإنساني على حد تعبيرهن.
كما تؤكد السيدة أسماء -إحدى المشرفات على عملية الطهو- أن جميع الأطباق الرمضانية المعدّة مستمدة أساساً من الأكلات الشعبية التركية وتتراوح بين الطبق الرئيسي وصحن الشوربة والسلطات والحلويات التركية بمختلف أنواعها فيما لا يغيب فنجان الشاي التركي عن كل مائدة.
لحوم حلال وتمويل ذاتي
ويقوم المشرفون الأتراك على هذه الخيمة الرمضانية كل فترة بشراء عجل وذبحه وطهوه، أما الدجاج فيشترونه من المدن الكبرى المجاورة التي تبيع لحماً حلال وهي محال تركية أو باكستانية بالأساس.
أما عن تمويل هذا المشروع الخيري الرمضاني فيوضح إمام المسجد أنه فردي بالأساس ساهمت في إنجازه 25 عائلة تركية مع الاعتماد على بعض الموارد المالية القادمة من التبرعات التي تطلق يوم الجمعة بعد الصلاة.
أجواء رمضانية ممتعة للطلبة
معاذ محمد عبد الملك، طالب يمني وأحد المستفيدين من هذه الموائد الرمضانية وهو الذي قدم منذ سنتين تقريباً لمدينة ليبون بهدف دراسة الهندسة بجامعة مونتان المتخصصة في هندسة المناجم لم يخف خلال حديثه "لـ"عربي بوست" شعوره بالسعادة والامتنان لهذه البادرة الخيرية في هذا الشهر تحديداً، حيث يكون الشعور بافتقاد العائلة والبعد عن الأهل ولمة الأصدقاء والأقارب مضاعفاً حسب تعبيره.
ويضيف "في بلد أوروبي مثل النمسا لا تمثل الجالية المسلمة سوى 7% يكون من الصعب علينا نحن الطلبة المسلمين خصوصاً في رمضان توفير حاجياتنا من الأكل الحلال، لاسيما الدجاج واللحم ومع وجود هذه البادرة من قبل الجالية التركية المسلمة، فقد هوّنوا علينا الكثير وأشعرونا فعلياً بأجواء رمضان كتلك التي نعيشها في بلداننا نحن ممتنون لهم صراحة".
كما يحضر مع معاذ عدد كبير من اللاجئين السورين والأكراد والأفغان، وفي حديثنا معهم عبّروا عن إعجابهم بهذه البادرة الطيبة التي اعتبروها فرصة للتعارف على باقي مكونات الجالية المسلمة بهذه المدينة الصغيرة ومشاركتهم الأجواء الرمضانية.
معاذ يستمتع وزملاءه بأجواء الإفطار الرمضانية وبما لذ وطاب من الأكلات الشعبية التركية ذائعة الصيت دون أن يفوتهم تناول قدح من الشاي التركي.
ليتوجهوا بعدها إلى المسجد لأداء صلاة التراويح في هذا المسجد الذي يقول عنه السيد أستيكان إنه تم الترخيص له بمزاولة نشاطه سنة 2004 كجمعية لأن القانون النمساوي يمنع تأسيس المساجد ثم استطاع بعض الأتراك القاطنين بالمدينة شراء المبنى سنة 2012 وتحويله الى مقر رسمي للمسجد وممارسة النشاط الديني من حلقات الذكر وتحفيظ القرآن.
تقارب بين الجالية المسلمة والسكان النمساويين
وفي علاقة المسجد بالحكومة النمساوية يقول أستيكان إنه لم يتعرض لأي مضايقات من سكان المدينة الأصليين وبأن القائمين عليه في اتصال شبه دائم بالإدارة النمساوية، فضلاً عن كون هذا المسجد تحت إشراف وزارة الأوقاف التركية وليس له علاقة بأي جماعة أو تنظيم ديني حسب قوله.
ويحظى هذا المسجد بسمعة جيدة في المدينة حتى إنه بين الحين والآخر يقوم بدعوة بعض العائلات النمساوية كنوع من التقارب بين الثقافات والأديان، ومن باب التعريف بعادات وتقاليد الجالية المسلمة في المدينة بحسب المسؤول التركي.
يذكر أن الجالية التركية في النمسا تمثل ثقلاً ديمغرافياً لا يستهان به بنحو نصف مليون تركي تليهم الجالية البوسنية والشيشانية والإيرانية وباقي الجنسيات العربية الأخرى.