أومأ الرجل النحيل، في بزَّته البنيّة، وشاربه المبروم برأسه موافقاً.
وقف وراء كرسيٍّ في مراسم أُقيمَت في الصيف، يراقب أنصاره والحوثيين وهم يوقِّعون اتفاق تقاسم السلطة من أجل حكم البلاد، دون اكتراث بأنَّ محادثات السلام كانت جاريةً في ذلك الوقت، أو أنَّ الأمم المتحدة عبَّرت عن قلقها من أنَّ الاتفاق ينتهك الدستور.
نهض الرئيس الذي أُطيح به خلال الربيع العربي، وأحد أكثر ساسة الشرق الأوسط دهاءً من جديد. ويقول مسؤولون ومحلِّلون إنَّه يستفيد من فوضى الصراع، وضعف الخبرة السياسية للثوَّار من أجل تعميق نفوذه، بحسب ما ذكر تقرير لصحيفة The Washington Post الأميركية.
عقبة في وجه أميركا
في يومنا هذا، يُعَد صالح العقبة الأكبر في وجه الجهود الأميركية للتوسُّط لإحلال السلام في اليمن، وتهديداً لنفوذ واشنطن في الشرق الأوسط. وتراجعت الجهود الأميركية لاحتواء فرع تنظيم القاعدة في اليمن، الذي ينظر إليه المسؤولون الأميركيون على أنَّه الفرع الأكثر خطراً للقاعدة، بصورةٍ جذرية.
اعتاد صالح على الغموض، والأزمات، والخوف. ويقول بعض المحلِّلين إنَّه يزدهر خلال هذه الظروف.
وعلى مدار 33 عاماً، حكم صالح بقبضةٍ حديديةٍ البلاد التي عانت من فسادٍ متفشٍّ وتهديداتٍ أمنيةٍ، من حركة تمرُّدٍ شمالية (الحوثيين) وصولاً إلى حركة انفصالٍ جنوبية (الحراك الجنوبي). وبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، دخل صالح في علاقاتٍ حذرةٍ مع الولايات المتحدة. ففي مقابل المساعدات الاقتصادية والعسكرية، سمح بضرب الجيش الأميركي ووكالة الاستخبارات المركزية (CIA) لفرع القاعدة في اليمن، المعروف بتنظيم القاعدة في جزيرة العرب.
وفي هذه الأيام، لا تزال صورٌ لصالح مرئيةً في أنحاء العاصمة، صنعاء، التي مزَّقتها الحرب، ويُشار إليه بـ"الأب الروحي" في بعض الأوساط. ويظهر بصورةٍ منتظمةٍ على قناة حزبه، ويعقد الاجتماعات، ويلقي الخطابات.
وقال جيمي مكغولدريك، منسِّق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في اليمن، إنَّ "صالح يحاول إظهار نفسه صانعاً للرؤساء". وأضاف: "لقد ظهر كقوةٍ من جديد، سواء كنت معجباً به أم لا".
ورفض مكتب صالح طلب إجراء مقابلةٍ معه، متذرِّعاً بمخاوف أمنية، لكن مستشاريه قالوا إنَّه ليست لديه طموحاتٌ للحكم من جديد. ويقول محلِّلون إنَّه ربما يحاول وضع نجله الأكبر، أحمد علي، في منصبٍ يمكّنه من السيطرة على حكم البلاد يوماً.
وعلى أقل تقدير، بحسب محقِّقين أمميين، تدل تصرُّفات صالح على أنَّه يرغب في البقاء رمزاً سياسياً محورياً في المنطقة، ويحمي أسرته، وإرثه ومليارات الدولارات التي جمعها خلال سنوات حكمه.
وقال هشام شرف، الوزير السابق في نظام صالح: "إنَّه (صالح) يعرف كيف ينجو".
البقاء في المشهد
من بين كل المستبدِّين الذين أطاح بهم الثوَّار العرب، يبقى صالح فقط هو من لم يُحسَم مصيره بعد. فزين العابدين بن علي، رئيس تونس السابق، فرَّ إلى المنفى. وحسني مبارك، رئيس مصر السابق، محتجّزٌ في أحد المستشفيات العسكرية. ومعمَّر القذافي، العقيد الليبي السابق، قُتِل بصورةٍ وحشية.
وصمد صالح (74 عاماً) أكثر من معارضيه الذين أزاحوه عن الحكم: قادة حركة الاحتجاج، ولواء الجيش القوي (اللواء علي محسن الأحمر) الذي انقلب عليه، وأكثر الأحزاب الإسلامية قوةً في البلاد (التجمّع اليمني للإصلاح). فجميعهم تضاءلت قوتهم.
وفي يونيو/حزيران 2011، نجا صالح بصعوبةٍ من هجومٍ بقنبلةٍ داخل مقرّه الرئاسي، عانى إثرها من حروقٍ وإصاباتٍ أخرى.
وربما كانت أدهى حركات صالح هي قدرته على البقاء في البلاد رغم الجهود الأميركية والدولية لإجباره على الخروج إلى المنفى بعد تسليمه السلطة إلى نائبه، عبدربه منصور هادي، في فبراير/شباط 2012.
ويقول منتقدوه إنَّ صالح تدخَّل من خلف الكواليس، في ظل بقاء حزبه سليماً دون مساس، ووجود موالين له في الحكومة الجديدة.
سحب هادي نفوذ صالح تدريجياً، فأزاح أعضاء أسرته من المناصب العسكرية والأمنية الرئيسية. لكن مع نجاح الحوثيين في السيطرة على أراضٍ أكثر، سرعان ما وجد صالح فرصةً جديدةً.
عندما استولى الحوثيون على العاصمة العام الماضي، فرَّ هادي إلى مدينة عدن الجنوبية. ومنذ مارس/آذار 2015، حاول التحالف الذي تقوده السعودية إعادته إلى السلطة.
وتسبَّب الصراع في تفاقم الأزمة الإنسانية، وخلَّف آلاف القتلى المدنيين.
توسُّع داعش
وسمح فراغ السلطة للقاعدة وفرع تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" الناشئ بالتوسُّع وشنّ العديد من الهجمات، في حين تتَّسع الانقسامات السياسية والمناطقية والقبلية.
وخلال حكمه خاض صالح 6 حروبٍ داخليةٍ ضد الحوثيين في الشمال، وهم الذين لطالما رأوا نظامه فاسداً وحمَّلوه مسؤولية أكثر مشاكل البلاد.
لكن صالح أقام تحالفاً غير متوقّعٍ مع الحوثيين حتى يضمن البقاء.
وقال نبيل الصوفي، المحلِّل السياسي القريب من المؤتمر الشعبي العام، الحزب الذي لا يزال صالح يقوده، إنَّه "كان زواجاً للمصالح".
اليوم، يعمل مقاتلون مُدرَّبون ومُسلَّحون جيداً موالون لصالح مع المقاتلين الحوثيين في الخطوط الأمامية. ومع أمواله وكاريزمته، حصل صالح على قبول قبائل وحلفاء سياسيين أقوياء بحكم الحوثيين.
ويدير الموالون لصالح والحوثيون بشكلٍ مشتركٍ الوزارات وأجزاءً أخرى من الجهاز البيروقراطي في حكومتهم التي أعلنوها، والمعروفة بالمجلس السياسي الأعلى.
ويسيطر صالح والحوثيون على شمال غرب اليمن، في حين يشرف هادي والقوات التي أعلنت الولاء له على مناطق في الجنوب والشرق.
ويجتمع صالح بصورةٍ منتظمةٍ مع القادة الحوثيين، ويؤمِّن نفوذ حزبه من خلال مهاراته السياسية، ويستخدم كذلك الشبكات الاجتماعية ببراعة.
لكن بدا أنَّ التوتُّرات بين صالح والحوثيين في تنامٍ. فقال محلِّلون ومسؤولون غربيون إنَّهما قد اختلفا على الوزارات، في الوقت الذي عبَّر فيه مسؤولون حوثيون عن استيائهم من بعض تصريحات صالح.
وقال المسؤول بوزارة الخارجية الأميركية، والذي تحدَّث شريطة عدم الكشف عن هُويته وفقاً للأعراف الدبلوماسية: "تبدو أهدافهم وطموحاتهم في صراعٍ مع بعضها البعض".
لكن مساعدي صالح والمسؤولين الحوثيين ينفون أية خلافات، وقال عبدالملك العجري، مسؤولٌ سياسي حوثي بارزٌ، إنَّه "من الطبيعي أن نختلف". وأضاف: "لكن ليست ثمة صراعات بيننا وبين المؤتمر الشعبي العام".
ويقول مساعدو صالح، الذي تعرَّض منزله لقصف التحالف العربي، إنَّه لا ينام في نفس المكان أكثر من ليلةٍ واحدة.
وقال شرف: "إذا قتلتم علي عبد الله صالح سيكون لديكم ألف علي عبد الله صالح يعادونكم".
هذا الموضوع مترجم بتصرف عن صحيفة The Washington Post الأميركية. للاطلاع على المادة الأصلية اضغط هنا.