كان النهر المتدفِّق السبب في هلاك سكان قرية تولا تولي.
وإذ يتلوى النهر حول 3 جوانب من القرية المنعزلة، فإنَّ مياهه الغادرة قد سمحت لجنود بورما بمحاصرة واحتجاز السكان على ضفة النهر الرملية. أُطلِق على بعضهم النار في حينها، بينما أغرق التيار آخرين عندما حاولوا الهرب.
ومن بين هؤلاء، سبح زهير أحمد مذعوراً إلى الضفة المقابلة، حيث اختبأ وسط الغابة الكثيفة وشاهد اللحظات الأخيرة في حياة أفراد أسرته، وفق تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.
وقال مستدعياً ما حدث في مقابلة أُجريت معه بعد أسبوع في مخيم للاجئين بدولة بنغلاديش المجاورة، محمرَّ العينين يرتدي قميصاً متسخاً بالعرق والتراب: "كنت بجوار الماء مباشرةً".
قال زهير أحمد إنَّ المراهقين والبالغين من عائلته قُتلوا برصاص البنادق، بينما أُلقي بالرُضع والأطفال، ومن بينهم طفلته الصُغرى، حسينة البالغة من العمر ستة أشهر، في مياه النهر.
بكى زهير وهو يصِف رؤية زوجته وأطفاله يُقتلون، فيما كان يعدِّد أسماءهم على أصابع كلتا يديه حتى نفدت أصابعه.
وقد فرَّ أكثر من 160 ألف شخصٍ من أصل مليون و100 ألف ينتمون لأقلية الروهينغا في ميانميار إلى بنغلادش، حاملين معهم قصصاً لما يقولون إنَّها حملةٌ للتطهير العرقي تُنفَّذ هناك.
وخلال مقابلاتٍ صحفية مع أكثر من 12 شخصاً من الروهينغا قادمين من قرية تولا تولي، رُويَ لصحيفة الغارديان البريطانية عمَّا بدا أنَّها مجزرة مُدمِّرة وقعت فيما اكتسحت قوات ميانمار المسلحة القرية يوم 30 أغسطس/آب ويُزعم أنَّها قتلت أعداداً كبيرة من السكان.
هرب مَن فرَّ منهم من المذبحة تجاه التلال الواقعة ناحية الغرب، في رحلةٍ استمرت ثلاثة أيام حتى حدود ميانمار مع بنغلاديش. وقال سكان القرية إنَّ البقية قد دُفِنوا في مقبرةٍ جماعية.
وقد منعت ميانمار، ذات الأغلبية البوذية، الوصول لتلك المنطقة المذكورة، وهذا يعني أنَّ صحيفة الغارديان لا يمكنها التأكُّد من صحة شهادات سكان القرية بشكلٍ مستقل.
ومع ذلك، فقد أُجريت العديد من هذه المقابلات مع سكان تولا تولي منفصلين على مدار يومين، إلا أنَّهم قد صدَّقوا على صحة تفاصيل ذكرها غيرهم في شهادته دون أي تلقين.
إنَّ قصة تولا تولي، على بشاعتها، ليست فريدة من نوعها. إذ شنَّ الجيش حملةً مضادةً ضخمة في ولاية راخين شمالي البلاد، رداً على كمائن تحاكي أساليب العصابات نصبتها جماعة ناشئة من ميليشيات الروهينغا يوم 25 أغسطس/آب.
وكان العديد من أقلية الروهينغا قد فروا من بيوتهم بالفعل. فقد دفع نشوب اشتباكاتٍ طائفية مع البوذيين في ولاية راخين 140 ألفاً منهم لهجر منازلهم عام 2012. وقد مات الآلاف من هؤلاء إما في عرض البحر أو في مخيماتٍ قاسية بالأدغال يديرها مهرّبو البشر.
وقد وردت تفاصيل ما حدث لمَن بقوا في تقريرٍ نشرته الأمم المتحدة هذا العام، 2017. ووصف التقرير ارتكاب جرائم قتلٍ واغتصاب جماعي من جانب القوّات المسلحة في أفعال "من المُرجَّح بشدة" أنَّها تبلغ حد جرائم ضد الإنسانية.
ومع ذلك، فإن موجة العنف الأخيرة هي الأسوأ على الإطلاق، وقالت الجماعات الحقوقية إنَّها قد تكون حملةً أخيرة لتخليص ميانمار من الروهينغا. وقد التقطت أقمارٌ صناعية صوراً لقرى بأكملها أُحرقت حتى سوّيت بالأرض.
وقد مُنعَت أيضاً كل جهود الإغاثة التابعة للأمم المتحدة في مناطق النزاع. وقالت إدارة أونغ سان سو تشي، والتي لَم ترُد فوراً على طلب صحيفة الغارديان للتعليق، إنَّها تحارب "إرهابيين مُتطرِّفين" يحرقون قُراهم بأنفسهم. وظهرت أيضاً تقارير عن هجماتٍ طائفية شرسة شنَّتها ميليشيات من الروهينغا على الهندوسيين والبوذيين بولاية راخين. وقد نزح 26 ألفاً من غير المسلمين في أحداث العنف الأخيرة.
وقال الفلاحون الذين يعيشون على الزراعة من تولا تولي، والذين قضوا حياتهم حتى الآن يزرعون الأرز والفلفل الحار، إنَّه لم يكن هناك أي عناصر ميليشيات في قريتهم عندما هجم الجيش عليها.
إليك قصصهم:
خالد حسين (29 عاماً)، عامل
قبل ثلاثة أيامٍ من المذبحة، قال حسين إنَّ نحو تسعين جندياً أمروا سكان القرية، وهم عدة مئات، بالانتقال إلى منطقةٍ تقع إلى شرق القرية، وهي مكانٌ يلقّبه المحليون بـ"الرمال" نظراً لأرضه الجدباء.
وقال: "كان قائدهم ذا نجمتين على كتفه. وقال لنا: تسري أقاويل في المنطقة نشرها أشخاصٌ في هذه القرية أنَّ الجنود يقتلون الناس في راخين. لكن عليكم جميعاً الاستمرار بالزراعة وصيد الأسماك فقط. كل ما نطلبه منكم ألا تهربوا عندما ترون جنوداً. إذا فررتم، سنطلق النار".
وأضاف حسين: "بعد خطابه ذاك، تنقَّل الجنود من منزلٍ إلى آخر. كان بصحبتهم سكان محليون من بوذيي راخين وأخذوا كل ما استطاعوا إيجاده ورأوه ذا قيمة: الذهب، والنقود، والملابس، والبطاطس، والأرز. ودمَّروا منازل ثلاثة أو أربعة أشخاص قالوا إنَّهم ينشرون الشائعات. كانوا يبحثون عن مقاتلين، إذ أخبرهم البوذيون عن وجود مقاتلين، لكن لم يكن هناك أيٌ منهم في القرية".
بيتام علي (30 عاماً) موزّع أرز
قبل يومٍ واحد من الهجوم، سبح سكان بلدة على الضفة المقابلة من النهر تُدعى دوال تولي إلى تولا تولي هرباً من الجيش. وبحسب ما قال بيتام علي، الذي آوى بعض النازحين في منزله، فقد مات أكثر من عشرة أشخاصٍ منهم في النهر. وشاهد البقية قريتهم تحترق على الضفة المقابلة.
وفي الثالثة والنصف من صباح اليوم التالي، سمع علي صوت إطلاق نارٍ لم يتأكَّد من مصدره.
وقال: "أعيش في الجهةِ الشمالية من القرية. عَبَر الجيش النهر من جهة الشمال وكانوا يتقدَّمون جنوباً. تركت عائلتي وهرعت إلى الأدغال لأحاول رؤية الجنود. انتظرنا حتى الثامنة صباحاً وعندها وصل الجنود، كانوا يرتدون ثياباً خضراء داكنة. وكانوا جميعاً مُشاة".
وأضاف: "ركضت عائداً لإحضار عائلتي، لكنَّا كُنَّا شديدي الاستعجال وجدتي عجوز لا تستطيع الركض. ومن الغابة، شاهدناهم يشعلون النار في منزلنا. كان أول منزلٍ يُحرَق في تولا تولي".
سرعان ما احترق بيت علي، وهو منزلٌ خشبي مُكوَّن من ثماني غرف نومٍ بناه علي وإخوته الثلاثة لأفراد عائلتهم الستة عشر. وكان سقفه مغطى بالقش وأوراق الشجر.
وقال علي: "استخدم الجنود قذائف آر جي بي، وأشعلوا النيران في المنزل مستخدمين أعواد ثقاب. وبمجرد أن تركوه وابتعدوا، عُدت حيث كانوا. كانت كل المنازل محترقة. وعلى الطريق، رأيت رجلاً ميتاً عرفت أنَّ اسمه أبو شاما. كان مقتولاً برصاصةٍ في صدره، كان في الخامسة والثمانين من عمره".
وبين أنقاض منزله المهدم، رأى علي جثة جدته مقطوعة الرأس ومُحترقة. قال: "كان اسمها رقية بانو، وكان عمرها 75 عاماً. عندما عُدت للأدغال، سردت ما رأيته لباقي أفراد عائلتي. انفجروا جميعاً في البكاء. وسرنا لثلاثة أيام".
كبير أحمد (65 عاماً) مزارع أرز
قال كبير أحمد: "عندما سمعت بأمر مهاجمة الجيش الجانب الشمالي، قفزت إلى النهر. وأتى ولداي معي. هُما في العاشرة والثانية عشرة من عمريهما".
وقال أحمد إنَّ 8 أشخاص من عائلته قد ماتوا. واثنان من بقية أبنائه مفقودان حتى الآن.
وقال: "ألقى الجنود بالأطفال في النهر. ألقوا بحفيدتي ذات الأعوام الثلاثة، ماكارا، وحفيدي أبو الفايز وكان يبلغ من العمر عاماً واحداً. فيما كُنت أنا أختبئ على الضفة الجنوبية من النهر. حشدوا جميع الناس ثم أمروهم بالسير بعيداً. ومن ثَم أطلقوا النار عليهم".
وأضاف: "كنَّا نحن على التلال، مختبئين وراء الأشجار. وفي المساء، جمعوا كل الجثث على ضفة النهر، ثم حفروا قبراً في الرمال وأضرموا فيهم النار. حدث هذا على بُعد 40 متراً من حيث كنت، على الجانب المقابل من النهر. جثثهم مدفونة على بعد مترين أو ثلاثة من ضفة النهر".
زهير أحمد (55 عاماً) مزارع أرز (شقيق كبير)
عندما وصل الجيش، كان زهير شقيق كبير أحمد هو الآخر بالقرب من النهر في مكانٍ آخر. فرَّ ابنه من منزلهم مذعوراً.
قال زهير: "صاح ابني: "اتركونا وشأننا!". وقفزت أنا إلى النهر سابحاً إلى الضفّة الأخرى".
وأضاف: "انتظرت وسط الأدغال أسمع إطلاق رصاص الجنود. كنت بجانب الماء. كان ابني قد ذهب لإنقاذ أفرادٍ آخرين من العائلة". لكنّه يقول إنَّ جميعهم قُتلوا.
بدأ زهير في عدِّ من ماتوا على أصابعه: "زوجتي، رابية بيغوم، 50 عاماً. ابني البكر، حميد حسن، 35 عاماً. وابنته، نعيمة، كان عمرها عامين إلى ثلاثة. وابنه، رشيد، عمره ستة إلى سبعة أشهر. وابني الثاني، نور كامل، 12 عاماً. وابني الثالث، فايز الكامل، 10 أعوام. وابني الرابع، إسماعيل، 7 أعوام. وابنتي الكُبرى، صفورة، 25 عاماً. وزوجها، أزهر حسن، 35 عاماً. وابنتي الثانية، سانجيدا، 14 عاماً. وابنتي الثالثة، أستافا، 6 أعوام. وابنتي الرابعة، شاهينة بيغوم، 5 أعوام. وابنتي السادسة، نور شومي، عامين إلى ثلاثة أعوام. وابنتي السابعة، حسينة، وكان عمرها ستة أشهر".
وقال: "انتظرت في مكاني 5 ساعاتٍ ثم رحلت".
محمد إدريس (35 عاماً)
وفي بنغلاديش، خيَّم اللاجئون القادمون من تولا تولي على التلال التي كانت خالية من البشر منذ بضعة أيامٍ فقط. إذ عَمِد عدة آلاف من الروهينغا لقطع الأشجار وتسوية الطين الفاتح ونصب خيامٍ باستخدام هياكل مقطوعةٍ من سيقان البامبو وقماش مشمَّع اشتروه من السوق.
الكُل جائع، ويحتشد المئات منهم حول شاحناتٍ مكشوفة متهالكة أرسلتها المساجد المحلية لتوزيع ملابس مستخدمة وطعامٍ على اللاجئين. يلقي المتطوّعون قمصاناً وبناطيل وسط الحشد المكتظّ ويقودون مبتعدين ببطء، خوفاً من أن يسحقهم الفوج المُنتظِر.
ينام الأطفال داخل الخيام على الطين، بينما يراقبهم أهاليهم قلقين من إصابتهم بالبرد أو الإسهال. وفي أرضِ فضاء بالقرب من المخيم، تفيض الأرض بالبراز السائل.
وعندما تهطل أمطارٌ كثيفة، يستحم نازحو تولا تولي في العراء. وتحمل النساء والأطفال أواني منبعجة بجانب الخيمة لتجميع الماء العذب. حلَّ الآلاف على هذه التلال، إلا أن المنطقة خالية بشكلٍ شبه كلي من أية متعلقات. فرَّ الكثيرون مذعورين وقلّة منهم فقط نجحت بالخروج من ميانمار وبحوزتها أي شيء.
كان محمد إدريس يعيش على الجانب الغربي من قرية تولا تولي، على حدود منطقة كثيفة الأشجار، ما مكَّنه من جمع بعض الأغراض قبل الرحيل. يُبرِز إدريس حقيبةً قماشية بيضاء بها ثقبان كبيران.
وقال: "كانت معي حقيبة ممتلئة بالزيت، والسكر، والدقيق، و10 آلاف كيات بورمي (نحو 7 دولارات)، والأرز، أشياء أخذتها معي من المنزل عندما غادرنا. وعندما وصلنا إلى نهر ناف (على حدود بنغلاديش)، بدأ الجيش البورمي بإطلاق النار علينا".
وأضاف: "قفزتُ إلى النهر واختبأت وراء حاجزٍ رملي في الماء. أتى جندي وأطلق النار على الحقيبة، ثم فتحها وأخذ كل ما فيها. وبمجرد وصولنا إلى حدود بنغلادش، أمرنا الحرَّاس بالتوجّه إلى هنا".
وقال إنَّه ظل يحمل الحقيبة لمدة ثلاثة أيام خلال رحلة السير لمسافة 10 أميال (16 كيلومتراً) من تولا تولي بين الأشجار وعلى التلال.
وفي المخيّم، تلقَّى إدريس مكالمة هاتفية عبر هاتفٍ جوّال مغبّر، تُشحَن بطاريته باستخدام لوحٍ شمسي رخيص وجده أحدهم في السوق. كان المتكلّم لاجئاً آخر من الروهينغا قرب الحدود. إذ أنَّهم وجدوا امرأة مصابة بطلقٍ ناريّ في ذراعها تطابق مواصفاتها أخته المفقودة.
وقال إدريس: "ظنّوا أنَّها قد تكون رابية، لكن لم تكن هيَ. لسنا متأكِّدين؛ أقُتلت أم لا. ما زلنا آملين".