هل يستحق الأمر؟ أعتقد لا، بل أعتقد نعم، ولكن عليك إدراك العواقب، فربما تنحبس في دائرة "المُحن" البغيضة، كما يقولون، وربما تُلقى في سلة التوافه، كما يُصنّفون، أكثرهم تَشدداً يُقَترك في زاوية الفسق كما دوماً يَحكمون، كُن حَذِراً يا هذا، فأنت تُجمّل مُشَوَهاً، تُعيد الزهو إلى جَوهرٍ طفته مُبالغاتهم الوَقِحة تارة، وإنكارِهم الجاحد تارة أخرى، لكن مهلاً.. ما أسهل الطلاء! وما أسرع سقوط طبقاته! إن كُنت سَتُزين واجهة مُزيفة فلا، وإن كنت ستجتهد لإزالة الرواسب من فوق هذا الكنز الحقيقى فمرحباً.. فلتجتهد.
مِن أكثر بِقاع العالم دموية في وقتنا الراهن "سوريا" ألتقط طرف حديثي، ومن عبارة صالح الحلبي إلى زوجته الحبيبة مروى "راجعين يا هوا" أستلهم الفكرة، في هذا المشهد يَشمَخ الحُبّ كقامة تُناطح السَحاب، يدهس المآسِي بأقدامه مهما بلغت درجة عُنفوَانها، يَسدّ فُوهة الدبابات ويُخرس أزيز الطائرات، يُعطِب الصواريخ ويُفشِل الرَصاص، يُراوغ الأشلاء المُتناثرة ويتجاوز الدماء السائلة، يقف الحُبّ هُناك ليُقاوم؛ ليَهزِم العالم، لقد بدا كسحر، يَهِبك الصمود أمام نوازل الدهر، يلطُم المُنغِصات ويُذيب الكوارث، يُخبرك واثقاً أنّ تلك الحياة بها ما يستدعي البقاء.
سالف السنوات القريبة لم أكن لأتطرق لحديثِ كهذا، يعود الاجتناب إلى سببين؛ أولهما ما نال الحُبّ من تشويهٍ وتفريغِ لقيمته الثمينة، رَمى تلك الرابطة الإنسانية المُقدسة بِسهام السُخرية والاستهتار وطَعنِها برِماح التدنيس، أوجّه الاتهام إلى فئتين مُتنافِرَتين ظَالِمَتين، يَنعتون فِئة المُتطرفين اليسارية بِسادة "المُحن"، أولئك الذين لا حديث لهم سوى الهندي شاروخان والتركي مهند، المُنبهرين بكل قيسِ وليلى تَرد إلى آذاننا مُغامراتهم، مَن تَحولوا مِن آدميين يُشبهوننا إلى كائنات الباندا "الحلوة بزيادة"، مَن يُدللون بـ"بنت قلبي" ويعتنقون "دين الحب"، أشعر باضطراب مَعِدَتك لمُجرد ذكر ذلك، تماسك قليلاً وإياك والقيء رجاء.
أمّا فئة المتطرفين اليَمِينية فتَبغض الحُبّ بِرُمته، يعتبرونه دَرباً من العَبث، خطيئة يجب أن تُفادى، وعند الوقوع بها سيسلَون قواطِعهم لِنهش قَلبِك الذي تجرأ وأذنب، إنّهم يتربصون كالذئاب بِكل حَمل وَديعٍ يتَشوّق لرفيق يُنير مسيرته فوق الأرض، هؤلاء لا يُقصد بِهم الشاردون عقائدياً فحسب، يَجلِس في ذات البوتقة المُنمونَ المُنتَشون بِحَكايات الحُبّ وتمزيق أصحابها، الساخرون المَعميون عن الروح والمُبصِرون للجسد، المَغرورون المُتاجرون بتلك الرابطة الطاهرة، وبين المُبالغين اللزجين من فئة اليسار والناكرين المُتعصِبين من فئة اليمين فَسد الحُبّ، وذَهب رونق الحديث عنه.
ثانى أسباب الاجتناب طَيف النور الذى حَلّ بِبلادنا، مَخاض أمتنا الذي جلب طَيّب الأمنيات في ظاهره، عِندها تشبثت يداس بساقِي الواضِعة ولم تَطرُف عيناي عن رَحِمها، سَيترك الجنين مَحبسه ويُشرق رَضيعاً نعتني به إلى حين يَكبُر، وقتها لا ضَير من الحُبّ ولكن ضِمن أشياء أخرى، يَعلوها مرة وتعلوه الثانية لا بأس بذلك، الواقع أنّه ليس بمُفرده، يفتقد الإغراء المُسيطر، نستحسن بقاءه ولن نبكي رحيله، هكذا الأمر قبل مُشاهدة الجنين يُعاني الخروج، فَشلت مُثبِتات كَماله، وركعت دائرة المُشرفين على قدومه، أُجهض الجنين.. ونحن معه!
كَتبت في تلك الساعة لِمن فقدوا أحلامهم، لِمن ضاعت أوطانهم، لِمن غَرِقوا في كوابيس الواقع المؤلم، لمن صاروا مُهددين بين فَينة وصاحِبتها، لِمن يُحصون أيامهم ويَعُدّون خُطاهم، لِمن لم يبقَ لهم سوى الحُبّ، هذا الأذى وهذا السلب بأيادٍ أخرى لا أياديكم، والحُبَ بأياديكم لا أيادٍ أخرى، حُرمتم حقوق الدنيا ولم تُحرموا أفئدتكم، اصنعوا بها سعادة لا تقطعها حدود، صونوا أنفسكم بداية، قلوبَكم ليست بحقول تجارب يقَتحمُها كل مخبول، احفظوها قوية متينة، فهي دوماً كذلك ما لم تُستهلك.
صديقي الذي دهَسته الأقدار وأغلقت الحياة نوافذ نُورها في وجهه ولم يذُق سوى الظلام، عليك بالهَرب إلى الحُبّ، وأعني هنا ذلك الجليل المُعمَر، يُريك القلبُ الآخر بوسِع الكون، متى وطئت قدماك أرضاً ظللت في رحابه، احبّ لترى نجاحاً في ابتسامة مَن تُحبّ، لتصير شُجاعاً يحفظ أمنه، راعياً يُجيب طلبه، أميناً يكتم سِره، كبيراً يحتوي روحه، سعيداً في دنيا حُبّك الخاص، واعلم أنّ لهو المُراهقين ليس بحُبّ، ومُبالغة المُبتذلين ليس بحُبَ، وتملّق المُراوغين ليس بحب، هو أقدس من كل تلك الوقاحات، هو ليس بعابر، إنما قابض على تلابيب كيانك عن رغبة منك حتى القبر.
غلقاً للحديث يا عزيزي، إن وعيت ما أقصِد سَتتأفف كثيراً من عنَاء الجُهد المطلوب لخلق تلك السعادة، وإن لم تعِ ستتّفه الأمر وتُحقّره، رسالتي إليك عندما تعثر على ما قصدت أن تُخفيه عن بطش الناس، لا تُلقِه في طريقهم فيركلونه فيما بينهم، صُن قدسيته ولا تخجل مُطلقاً من امتلاكه، وقُل للعالم بأسره حينها إذا ما التف حولك يرجو كَسرك، تُشاركني الحِصار زوجة حبيبة، وقولي أيضاً، يُشاركني الحصار زوج حبيب، تغّنوا بحُبّكم كما تغّنا الحَلبيان من تحت الرُكام.. حَسبُ حروفي تلك، لِمن لم يبقَ لهم سوى الحُب.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.