تأخر العرب، وخاصة منهم عرب المسلمين، هو تأخر في الذهنية وفي الشخصية العلمية، إن جاز التعبير.
تأخر في الذهنية لارتباطها بالغيب ارتباطاً مرضياً باستسلام العقل العربي إلى التصديق المباشر والايمان السلبي.
وتأخر في الشخصية العلمية لغياب وانعدام مناهج علمية أو أدوات علمية راسخة ومتمكنة في العقل العربي، تمكنه من الإقرار بالحقيقة والبحث عنها وتخصيص جانب من حياته المعرفية للوقوف على القضايا الكبرى، قبل الانتقال إلى التفاصيل والدقائق.
وإذا كان كثير من فقهاء وعلماء الدين متخلفين في مناهجهم وطرائق تقديمهم لمعارفهم، مما أصبح يشكل دافعاً كبيراً لنفور عدد كبير من دعاواهم ومحاضراتهم، فإن هذا لا يعفينا من النظر إلى الطرف الآخر، وأقصد به الكثرة الكثيرة المستسلمة لدغدغة العواطف وهدهدة المشاعر والأحاسيس.
وهو ما انعكس سلباً، ليس فقط على المستوى العلمي والمعرفي، بل أصبح يوظف في أخطر القضايا التي تمس الإنسان العربي بشكل ملموس، وهو توظيف الدين من أجل كسب مادي عابر، وخاصة توظيفه في القضايا السياسية التي تمس قوت يومه ومستقبل أبنائه ووطنه.
معلومات وأسرار القرآن، إعجاز إلهي أما العرب والمسلمون فلا يقدمون شيئاً، بل إن عملية تزكية وبرهنة الإعجاز القرآني يقوم بها المجتهدون من بني البشر من خارج جغرافية العرب والمسلمين الإنسانية.
وإذا كان الله رب العالمين، فإن العرب المسلمين أعجز من الانتساب إلى هذا الدين علمياً، وهم فقط ينتسبون إليه وراثياً.. وكم من وريث بعثر ثروته على الفراغ، الفيزيائيون الجدد يقطعون يقيناً أن ليس هناك واقع ما، فما تسميه أنت واقعاً ينكره الآخر، فلم يعد بالإمكان مع التطورات المذهلة لحقول علمية متعددة التمسك بتفسيرات الكون الكلاسيكية، المطابقة للحس المشترك، علينا إذن كما يقول جان غيتون، التسليم بأن "الواقع" ذاته غير موجود.
يمكن البرهنة على ذلك من خلال فكر فلسفي جدلي، كما يمكن البرهنة عليه من خلال مقولات فيزيائية ورياضية.
ولن يدعي عاقل أن القرآن الكريم هو كتاب علمي بحث، أو مكرس للقضايا العلمية، فهذه سفسطائية عقيمة، وهو حين يذكر لفظة العلم، فإنما يذكرها مرادفة لتلقي الخبر، أو العلم بالشيء كسائر ما نعلمه في حياتنا البسيطة، كقوله تعالى: "وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ" (آل عمران: 19)، أو قوله: "وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ" (الشورى : 14)، فالمقصود بلفظ العلم هنا هو العلم بالشيء، وليس العلم كبحث منطقي ورياضي، وهذا معلوم من سياق الآيات الواردة بهذا الشأن.
أما تصديرات السور التي تبدأ بتعريف القرآن الكريم، فهي غالباً ما تشير إليه باعتباره كتاب هداية، وكتاب دين، وكتاب حكمة، وكتاب قصص، وكتاب تبيين وبيان، وكتاب ذكر وتذكرة، وكتاب إخبار، وكتاب بشارة وإنذار.
هذه الإشارات التصديرية بمثابة تعريف جامع مانع لطبيعة النص القرآني. وهنا لا بد من الإشارة إلى بعض المتعصبين الذين يدافعون عن كون القرآن الكريم كتاب علم، فهنا وجب تذكيرهم ما يقصدونه أولاً بمعنى العلم.
فحين تقول لفرد ما علمت ما صنعته البارحة، فهذا يعني أن خبر ما صنع البارحة قد بلغك، وهذا يدخل في باب العلم بالشيء، ولا يدخل في باب العلم الحق المختص بحقل معرفي معين، من علوم الاستخلاف والتمكين، كما يقول بعض العارفين، وهي العلوم التي تمكن البشرية وبعض الأمم من اجتراح اكتشافات غير مسبوقة في ميدان من الميادين.
وإذا نظرنا إلى تاريخ العلم والأفكار العظيمة، فإننا نندهش حين نجد أن العلم الحقيقي لم يقُم على وحي أو هبة أو منحة، بل قام على جهد وتضحيات عظام وعرق كبير، وتكريس للزمن من أجل إثبات نظرية أو فكرة أو تهيُؤ أو تمثل.
وهو أيضاً نتيجة تلاقح الأفكار بمتابعة المعلومات والأفكار والإشارات المبثوثة في بعض الكتب وعلى رأسها القرآن الكريم.
ولكن ما المقصود بالعلم هنا لغة؟ فإذا كان قضية الإعجاز قضية مسلّماً بها من حيث دلالتها اللغوية، فان لفظة العلم رغم كثرة تداولها تظل هي مربط الفرس كما يقال، والعلم له تعريفات متعددة، فهناك العلم بالشيء وهو المعرفة السطحية بوجود شيء ما، أي إدراكك لوجودها إدراكاً عابراً، وهناك العلم بالكيف، أي البحث والسؤال عن كيفية تحقق شيء ما، وهناك أخيراً العلم هو التوغل والتخصص في نوع من العلوم، وما دام موضوعنا هو الإعجاز العلمي، فإن ما يجب الإشارة إليه أن هناك معلومات واردة في القرآن الكريم لم يسبقه إليها أي كتاب آخر، كأطوار تكوّن الجنين، أو نبوءة انهزام الروم ثم انتصارهم أو أخبار القدماء، وهذه أمور مطروقة منذ عهود أخجل من ذكرها مفتاح معرفي أنا البسيطة في معلوماتي ومعارفي.
لكن ما أود الإشارة إليه، وهذا ما أشرت إليه تكراراً ومراراً أن علماء ملحدين أثبتوا نظرية الانفجار العظيم، وهي تتعلق بخلق الكون أو انبثاقه.
وقد أشار إليها كل علماء الفيزياء تقريباً وأثبتوا دقتها وصحتها وانبهروا أمام سحرها وعظمتها وسلموا الفعل لفاعل متحكم ومقتدر.
أينشتاين أثبت ذلك، والأخوان غريشكا وإيغور بوغدانوف أكدا هذه الحقيقة وبالأدلة العلمية الدقيقة، فأين إذن الإشكال؟!
إن كمّ التلميحات والإشارات لحقائق الكون وظواهره بالنظر إلى الزمن التي قيلت فيه، يعتبر في ذاته، إعجازاً، إذا ما استعملنا مفهوم الإعجاز باعتباره أمراً خارقاً للعادة.
ولم يثبت علمياً أن كتاباً حوى كل تلك المعلومات بتلك الخصوبة والدقة واليقين، ولكن وبرغم ذلك فإنه يبقى وحياً إلهياً وليس كتاباً علمياً.
قد نستسيغ اندفاع بعض الباحثين الذين يندفعون بحماس زائد لرد إشارات القرآن خوفاً على الدين كما يدعون، بسبب انتهاز بعض المشايخ جهل العامة، واسترزاقهم بحقائق العلم المادي بعد عكسها على معلومات وإشارات وردت في الكتاب المقدس للمسلمين.
لكن هذا المنطق مردود من أساسه، فلو أن القرآن الكريم وردت فيه آيات تفسر ظواهر طبيعية يحار أو عجز ذهننا اليوم على تقبلها تقبلاً عفوياً، كيف استطاع راعي غنم لم يدخل مجالاً تعليمياً يوماً إلى شرح وتفسير مجموعة من الظواهر العلمية قبل أكثر من 14 قرناً؟
بل كيف استطاع أن يكتسب كل تلك المعارف ويضعها في كتاب واحد، بالإضافة إلى ما يمكن تسميته تجاوزاً بهوامش القرآن أو شروحاته، وهي الأحاديث النبوية؟
فحسب علمي المتواضع لم يخلق إلى يومنا هذا من تنبأ بكل تلك الظواهر والقضايا العلمية والمعرفية أكثر من النبي محمد، وهذا ما بوّأه شرف تصدّر كتاب مايكل هارت "الخالدون في التاريخ".
فالأمر هنا يتعلق بكتاب منزل أو وحي موحى، ولا يتعلق بجهد إنساني وإبداع بشري، وهنا مكمن الخلل والتعارض بين أدعياء ومروجي مقولة الإعجاز العلمي الثابت في القرآن الكريم، وبين شطحاتهم الإخبارية التي لا تنبئ عن أي علم، بقدر ما هي أخبار ونشر لبحوث واكتشافات يصدقها ويُعضّدها القرآن الكريم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.