في أصيل ذلك اليوم المشهود كنت أحتسي قهوة المساء في مقهي "فينيسيا" الذي يرتاده خليط من المثقفين والماجنين وعشاق كرة القدم ما بين كتالوني الهوى ومدريدي القلب والأفاكين وشذاذ الآفاق، كان هذا الخليط بالنسبة لي هو صورة مصغرة عن مجتمعاتنا العربية التي تزداد تخلفاً كلما ازداد الآخرون تقدماً.
كانت الدردشة بيني أنا وبعض الشباب المدَّعين للثقافة من تونس والجزائر والسودان ورابع من أهل الأرض تدور عن أحوال العرب ومآسيهم ومعضلاتهم وحمامات الدم التي تخرج علينا بها قنواتنا العربية التي لم تنقل لنا يوماً خبراً جميلاً أو اكتشافاً راقياً، اللهم إذا كان اكتشاف أكبر طبق للحلوى أو صناعة أكبر حصن للثريد في بلداننا العربية الشاسعة.
قطع دردشتنا ذلك الصوت الذي تسلل إلى مجلسنا من بعيد، يستغيث وينتحب، يبحث عن لقمة عيش، عن دواء لمريض، ونصرة لمظلوم، وقضاء لحاجة وإطعام لذي مسغبة.
كانت فتاة في سن الزهور، طويلة القوام حلوة الكلام، بديعة اللسان، لكنها حزينة الروح والجنان، تبكي بغزارة وتندب بحرارة، تبكي وطناً ضاع، وأرضاً ضاعت، وأهلين فرقتهم عوادي الزمن القاصمات، ونوازله القاضيات.
سألتها: من أي بلاد العرب أنتِ يا أخت العرب؟
أجابت والدمع ينزل صبابة من مقلتيها الساحرتين وغصة في حلقها تمنعها من إكمال كلماتها العاثرة وحروفها التائهة، قالت لي بعد أن تنفست الصعداء حزناً وكمداً: أنا من بعلبك ومن دمشق الجريحة.
قلت في نفسي: آه دمشق تلك التي هام بها شوقي وترنم عليها قباني، وأسسها عبد الملك، ومات غير بعيد من أسوارها صلاح الدين، دمشق حضارة الأقدمين ومفخرة المتأخرين، تتحول إلى أرض حروب وقتل ودم وموطن ينتج المتشردين والأفاكين وقطاع الطريق والنصابين.
أكملت حديثها: لقد فقدت كل شيء؛ الأب والأم والزوج ولم يبقَ لي إلا أخ صغير تتقاطعه الأمراض، فقررت أن أتجول في الأزقة والشوارع والبيوتات بحثاً عن بقية أخلاق وشيء من الإحسان.
جثوت إليها واقتربت منها ثم أنشدتها قول شوقي:
سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ ** وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشق
وَذِكرى عَن خَواطِرِها لِقَلبي ** إِلَيكِ تَلَفُّتٌ أَبَداً وَخَفقُ
دَخَلتُكِ وَالأَصيلُ لَهُ اِئتِلاقٌ ** وَوَجهُكِ ضاحِكُ القَسَماتِ طَلقُ
ضحكت رغم الألم الذي يعتصر قلبها لتبين عن ثغر باسم وكأنه البدر ليلة تمامه وقالت: أنتم العرب لا تجيدون سوى قول الشعر وترديده، نحن أحوج الآن إلى دريهمات تساعد في دواء أو طعام.
أدخلت يدي في جيبي وأعطيتها بعض دريهمات كانت قليلاً في حقها وحق سوريا الغالية، ثم دعوتها أن تأخذ استراحة محارب وتتناول معي فنجان قهوة مغربياً قد يذكرها بأيام وليالي دمشق الخاليات.
استجابت بعد تلكؤ ومماطلة ثم أسندت ظهرها إلى مقعد قصي، وكأنها تشير بذلك إلى غربة الأهل والوطن.
تأملت في وجهها الجميل وعينيها الدامعتين وسألتها ما هي قصتكم في أرض الشام؟ وما هو سر حزنك وألمك ويأسك من حياة لم تتجاوزي عقدها الثالث؟
بدأت تسرد لي حكايتها المؤلمة المبكية التي تحترق لسماعها القلوب وتبكي لها العيون دماً وحزناً وكمداً.
بادرتها قائلاً: كيف هي دمشق الآن؟ أما زالت بذلك الجمال وتلك الأناقة؟
نزعت معطفها لتبيين عن شعر يسر الناظرين ذبل من فرط الأحزان ومن كثرة التنقل، إلا أن سواده لا يزال بارزاً وطوله يسر الناظر ويسعد القلب ويكشف غمة المحزون.
تناولت الكلام وأردفت: لا لقد تحولت إلى مدينة أشباح، كل الأشياء الجميلة اختفت، كل الأصوات العذبة قتلت، كل النساء الجميلات تحولن إلى سبايا لبني "الأسد" أو أسيرات لدى "داعش" حتى الشوارع والأزقة أصبحت خالية إلا من المدججين بالسلاح أو الباحثين عن ضحايا جدد يقدمونهم قرباناً لآلهة الموت التي تحكم دمشق "الجريحة"؟
قاطعتها: وأين مقهي "الرشيد" مرتع المثقفين وملتقى الفنانين ومنبت المبدعين؟
قالت: الرشيد وما أدراك ما "الرشيد" لقد تحولت إلى خراب ودمار ولم يبقَ منها إلا أثر بعد عين، لقد فعلوا بها أكثر مما فعله المغول بعاصمة "الرشيد"، جعلوها مسرح الموت والدمار وفناء الأعمار، إنهم يبدعون في قتلنا "نظاماً ومعارضة" يتلذذون بآلامنا ويدفعوننا إلى المجهول، إلى حرب تقضي على ما تبقى من عاصمة "آل مروان" وعروس المشرق العربي فهل من منقذ لعاصمة الخلافة والخلفاء؟!
لسان حال دمشق اليوم يردد مع الراحل قباني قوله:
يا دمشق البسي دموعي سواراً ** وتمنّي.. فكلُّ شيء يهونُ
وضعي طَرحَةَ العروس لأجلي ** إنَّ مَهْرَ المُناضلات ثمينُ
رضيَ اللهُ والرسولُ عن الشام ** فنصرٌ آت وفتحٌ مبينُ
مزقي يا دمشق خارطة الذل ** وقولي للـدهر كُن فيـكونُ
على دمشق أن تمزق خارطة "الذل والهوان"، حينها ستكفكف ريم دموعها الدمشقيات وتعود لها ألقها وجمالها الذى أخذته منها سنوات الحرب وبسمتها التي سرقها منها شبيحة "لأسد الغادر" وشذاذ الآفاق من داعش وأخواتها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.