أسعد الله صباحكم.. السادسة والنصف صباحاً، الثلاثاء 17 يناير/كانون الثاني 2017، من شرفة المنزل ورائحة الشوارع المتبقية من عطر الفجر في قمصان مسقط رأسي، بحي الخربتاوي، مدينة بسيون بمحافظة الغربية، ودرجة الحرارة المنخفضة، ورعشة البرودة في الجسد وفنجان البُن، وصوت أقدام المارة من سن الـ12 وحتى أرذل العُمر.
هنا الجميع استيقظ في هِمَّة، وربما أقنعوا أنفسهم في هدوء بوجود الدفء والنشاط، وصوت العصافير تخرج كالألحان من بين تلك الأفرع بحديقة خالي في المواجهة.
فجأة صوت العربة الريفية يقطع عليك التأمل، ويُصيب لسانك بلسعة سخونة القهوة من الخضة، وعليها ذلك الجار، الذي لا تتضح ملامحه من كثرة ما يرتدي من ملابس وشال وعمة يلتفان حول وجهه بالكامل، وفي العربة مواشٍ ودواب وأغنام وآلات الفلاحة اللازمة.
أن يبتلع الهدوء بعد ثوانٍ كل هذا المشهد العظيم المليء بالراحة والسكون، ويقطعه زحام الفكر واستعمار التكنولوجيا الحديثة من أخبار وأحداث متتابعة، تُعيد إليك الغم والحزن على ما يحدث في بلادنا ومنطقتنا كلها، اللون الأحمر يكاد يكون اللون الغالب على كل الأحداث، كل الجراح لا يُضمدها الصبر، ولا تُبشر بضياء الشمس بعد غيابها، ولا تستدعي انتظار الفرج، الصراخ صوته مسموع حتى في كلمات الموسيقى ويزداد الصعب من حولنا.
حوادث قتل وانفجارات واغتصاب وطائرات وصواريخ، ومع ذلك لا يستطيع أحد أن يتصدى لذلك، وفي المقابل هذا المشهد الصباحي الذي يؤكد أنه لا أحد يستطيع أيضاً أن يقضي على حرية الإنسان الصغير في أن يستمتع بهذا الجمال المُشرق حتى وإن كان ما بداخله بركان ثائر لا يحتاج سوى شكة إبرة.
فجأة.. أحسست أني قريب من الأرض الزراعية التي تبعد عن المنزل بنحو 800 متر، هذه الأرض التي لحق بها الجار صاحب الشال والعمامة، وهو ينحت فيها كأنها لوحة يحاول تخطيطها ورسمها ليزرع بها الألوان المُبهجة، والتي تطل علينا من صفحات المصورين وبسببها يحصدون الجوائز.
ومن أول لحظة وبعد كلمة الهمهمة من الترحيب، وتخللها في الحديث عن الحالة الاقتصادية والظروف المادية المتردية التي تمر بها مصر، وأحداث الدم التي تكاد كل ساعة، رُحنا لهذا الجانب من قضية تيران وصنافير، ذلك الرجل المُسن عمراً وحكمة ريفية، "يا أستاذ محمد، فيلم الأرض هو أبسط من أبسط رد ممكن يترد بيه على الموضوع ده، أنا راجل في حالي، ورغم إننا على طول بنقول لما الحال يكون بيشتد، إن دي بلدهم مش بلدنا، بس إلا الأرض، أرضك دي زي سلاحك في الجيش، حتة منك ومن تاريخك ومن أهلنا، ولو فرطنا فيها يبقى ما نستحقش إننا نكون رجالة ولا نستحق نكون من نسلهم".
وبعد تنهيدة قوية: "تقدر يا أستاذ محمد تقولي هو يفرق معاهم إيه؟ ولا حاجة طبعاً، البشاوات معاهم الفلوس ورغم كده لو نزل حاجة عليها دعم للغلابة اللي زينا، يجروا عليها ويسرقوها، ومن غير جري كمان ممكن بتليفون يخلص الموضوع، عشان يجامل بيهم فلان ولا فلان من قرايبه وحبايبه، وإحنا نولع يا باشا عادي.. وبرضه نفس الباشا اللي عشان يشغل ابنك حتى لو ابنك ده يستحق الشغل ده، هيطلب منك رشوة، دول ناس ما تفرقش معاهم أرواح الناس، هيفرق معاهم أرض.. ربنا يرحمنا برحمته، ده حتى اللي بيموت مش ناس في مناصب عالية إلا لو بقى نضيف شوية، كل اللي بيموت غلابة وبرضه عشان مصالح".
في الحقيقة عُدت إلى المنزل في التاسعة إلا الربع، وقلبي مليء بالقهر على ما وصلنا إليه، وعلى ذلك الوجع الذي تفوه به الجار العزيز، ولسعة القهوة ما زالت في أطراف لساني، كلما تحرك اللعاب داخل فمي أفاقتني من التفكير، حتى ذهبت إلى جانب آخر وبدأت أغوص في التفكير، هل إذا تخاصمت المملكة السعودية في القضاء الدولي مع مَن ستختصم؟! وإذا اختصمت مع منظمات حقوقية في مصر أو مع القضاء المصري، تُرى ماذا سيكون موقف الحكومة المصرية مع أم ضد مؤسساتها؟! الموقف مُحيّر جداً، هل ستكون الحكومة طرف خصم في القضية أم ستكون شاهداً؟!، وماذا عن هذا الشعب الذي يتفق الجميع على أن ينقصه الكثير والكثير من التقدم الثقافي، ولكن بدأ يعي ما حوله على الأقل ويعمل على تحريك الفكر.
أصعب ما يواجه أي نظام وأي حكومة أن يكون الشعب على درجة من الوعي حتى وإن كانت بسيطة جداً، فمن ضمن الآراء المقلقة التي تم طرحها أمس، أن القضاء يعمل تصفية حسابات مع الحكومة بعد أن بات الخلاف ذاهباً للانتحار والحبس والإعدام والفضائح، وهذه كارثة كبرى إن كان ذلك صحيحاً.
وبالنسبة للمواطن العادي لا تهمه تصفية الحسابات بقدر ما يهمه إلى متى سيكون الوضع متفاقماً هكذا؟! هل الأزمة في الثروات أم ضياع مبادئ الثورات؟ هل تراجعت الثروات فباتت مصر فقيرة؟ أما من جاءوا بعد الثورات لم يُحسنوا استغلال غنى مصر بالطبيعة وغير الطبيعة، البشرية والتكنولوجية، لسعة القهوة تُطيح بالتفكير مرة أخرى.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.