تختلف زوايا النظر باختلاف الجوانب التي تنظر منها، وتتعدد الرؤى بتعدد الأعين التي ترى من خلالها.
فلو كنت بجانب مستشفى مركزي، يتوافد عليه مئات الجرحى والمرضى وضحايا حوادث السير كل ساعة، لظننت أن العالم مليء بالأمراض والحوادث والأوبئة، ولو مررت بجانب مقبرة كبرى، لقلت في نفسك إن المدينة كلها قد ماتت، ولم يبقَ عليها من حي، أما إن كنت تسكن بجانب قاعة حفلات وأعراس، فستتساءل حتماً عن سبب حديثهم المتكرر عن العنوسة والعزوف عن الزواج، والقاعة لا يكاد طنين موسيقاها يخفت حتى يبدأ من جديد.
وقد يحدث أن تدخل المكتبة يوماً، فيعتريك شعور واسع بالفرح والسعادة؛ إذ ستجدها مليئة عن آخرها بالقراء والمثقفين والراغبين في التزود من بحار العلم والمعرفة، وستتأكد حينها أن الأمية قد انعدمت، أو أنك ستتوهم ذلك، نفس الأمر ستفكر فيه لو صادفت أثناء مرورك بجانب مؤسسة تعليمية، خروج أفواج التلاميذ والطلبة الذين تعدى عددهم المئات بل الآلاف.
وأنت في محطة القطار بداية العطلة، سيبهرك عدد المسافرين وعدد الحقائب التي تفوقهم، وستحسب أن كل مَن في المدينة كان ينتظر الفرصة للهجرة، لكنك لم تفكر أبداً في النظر خلفك؛ لترى المدينة المكتظة التي حسبتها مهجورة، لن أخبرك إن مررت بجانب أحياء الصفيح أو الأحياء الهامشية على جوانب المدينة، عما ستفكر فيه؛ لأنك فكرت فيه الآن حتماً، وقلت في نفسك إن البلد في طريق الهلاك لا النمو، ففي السنة السابعة عشرة بعد الألفين، لا يزال الناس ينامون تحت سقف من صفيح، لا يكاد يقي من قطرات المطر شتاء، وحرّ الصيف تحته جهنم.
فلا تعتقد يوماً أن العالم مصبوغ بطلاء واحد، فالألوان تعددت، والأشكال تنوعت، والزوايا اختلفت، حتى إن الورقة التي لم تسقط في فصل الخريف، خائنة في أعين أخواتها، وفية في عين الشجرة، متمردة في أعين الفصول، فاجعل نظرتك شمولية للعالم، كأنك تنتظر إليه من أعلى جبل.
لكن احذر أن تمكث هناك طويلاً، فليس ذلك لصالحك؛ لأنك ستسقط في مأزق آخر، ليس أقل خطورة من ذاك المذكور سلفاً؛ إذ إن وجودك على قمة جبلك سيمنعك من معايشة الناس والاحتكاك بواقعهم، وهذا ما سيحجب عنك معرفة حقيقة حياتهم اليومية، وستبدأ حينئذ في إصدار الأحكام والتقييمات والانتقادات لكل ما يجري هناك.
ستلوم الحكام عن سياستهم وسوء تدبيرهم، وتلعن المحتفلين والمطربين لكثرة سهراتهم، في الوقت الذي يعيش فيه العالم حروباً ونزاعات كبيرة، ولا تنفك تنتقد فريقك المفضل لكرة القدم، أو فريق بلادك الذي يشهد انهزامات متتالية، وستسعد لأولئك الموتى في قبورهم؛ لأنهم ماتوا قبل أن يشهدوا مهزلة التاريخ هذه، ولا أدري صراحة إن كنتَ ستعتبر ورقة الخريف تلك متمردة أم خائنة؛ لأن الأمر يتعلق بمدى اهتمامك بفصول السنة.
صدّقني ولا أبالغ لو أنك كنت بين هؤلاء وهؤلاء، لفهمت ما يجري من حولك، ولكنت مواكباً له، فلا أنت في أعلى الجبل هناك تعيش، ولا أنت في أسفل سافلين تقضي وقتك، لا تتعدّى نظرتك أنفك القصير.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.