مَثَلُ العقل البشري بشقيه الظاهر والباطن كَمَثَل جبل الجليد العائم، يظهر ثُلثه على السطح فتراه أعيننا، بينما ثُلثاه غارق في الماء مختبئ عن الأعين لا نراه إلا في ظروف محددة وباستخدام وسائل معينة، كذلك هو عقل الإنسان، فما يظهر لنا منه أثناء التعامل والمخالطة في الظروف العادية قد لا يكون سوى قشرة بالنسبة لما يوجد في العقل الباطن من سلوك وأفكار وتوجهات لا تظهر إلا ضمن ظروف معينة وضغوط محددة.
حدثني صديق سوري عن أحد جيرانه الذي كان مشهوراً في الحي بصلاحه وحسن أخلاقه ومحبته للناس ومحبة الناس له، قال: كان رجلاً من أروع ما يكون الرجال، ديناً، وخلقاً، ومعاملة، لم تكن تبدو عليه أي آثار عنف، أو ملامح كراهية، وكان عمال مصنعه يحبونه كثيراً ويحترمونه أشد الاحترام؛ لقربه منهم، وحسن معاملته لهم، ثم لمّا وقع في البلاد ما وقع من فوضى واقتتال وفلتان، وإذا بصاحبنا قد جَمَّعَ من حوله عصابة مسلحة وصار يفرض رؤيته على الجيران والمارة تحت حُجَّة تطبيق شرع الله، وهو في الواقع يطبق ما علق في ذهنه من فهم وما وافق مصالحه من أهواء، حتى عمال مصنعة انفضوا عنه، ومنهم من وقع معه في مشاكل واشتباكات.
وأردف صاحبي قائلاً: لا ندري ما الذي قلبه بهذه الصورة رأساً على عقب، وما الذي حوله من رجل هادئ متزن (حباب) -بلهجة السوريين- إلى وحش كاسر مخيف يخشاه الناس ويحذره أقرب المقربين؟
هنا قفز إلى ذهني بحث نفسي للطبيب والمؤرخ الفرنسي الشهير غوستاف لوبون، بعنوان تقلبات الخلق أيام الثورات، يقول فيه: "لكل امرئ -ما عدا نفسيته الثانية- شؤون خلقية متقلبة تُظهرها الحوادث.
وتتألف شخصية الإنسان الخاصة من اجتماع شخصيات وراثية كثيرة تبقى متوازنة ما دامت البيئة ثابتة لا تتقلب، فمتى تقلبت هذه البيئة كثيراً، وذلك كما يقع أيام الفتن، اختل هذا التوازن.
وتتألف من تكتل العناصر المنحلة شخصية جديدة ذات أفكار وعواطف ومناهج تختلف جداً عن الشخصية العادية، ومن ذلك أن كثيراً من رجال الصلاح والقضاء، الذين كانوا موصوفين بالحلم، انقلبوا أيام الهول إلى أناس متعصبين سفاكين للدماء".
قد تتفاوت حدة هذا الانقلاب من شخص لآخر، ومن زمن لآخر، حسب شدة تغير الظروف وسرعتها، ولو فتش أحدنا في محطات حياته للمس هذا التغير واضحاً تبعاً لظروف اجتماعية أو اقتصادية تمر به، فكم من رب أسرة مجرم في حق أسرته لكنه ملاك في تعاملاته خارج البيت، وكم من معلمة هي رمز المثالية في تعاملها مع طالباتها، وديكتاتورة في علاقاتها الأسرية، ومن يدري فلربما لو ملكت على طالباتها السلطة التي تمتلكها على أبنائها لمارست عليهم نفس القمع، وهذه صورة مصغرة تكبر كلما كثرت الضغوط، وكلما كان التغير أكبر وأكثر وقعاً وتأثيراً.
وكم من قصص لأصدقاء السلاح في نضالهم ضد المستعمر، وسباقهم في فداء بعضهم البعض بالأرواح والمهج طالما كان العدو حاضراً، فإذا ذهب العدو ولاح لهم بريق الغنائم، وجهوا أسلحتهم إلى صدور بعضهم البعض، وصار الحريص على فداء رفيق السلاح بروحه بالأمس أكثر حرصاً على قتل هذا الرفيق اليوم!
وكم من رجل دين أشبع مريديه بقصص البطولة من سير عبد الله بن مسعود وجعفر بن أبي طالب وحبيب بن زيد، ثم لما جد الجد، ووقعت الفتنة، وخاف الشيخ على حياته إذا به يسلك بهم سيرة مسيلمة الكذاب !
وإذا ما استثنينا خُبثَ الطوية، والمنافقين وأصحاب المصالح الذين لا يخلو منهم زمان ولا مكان، والذين يُبَيتونَ في الرخاء ما تُظهرَهُ الشدّة، فإن 1% على الأقل من البشر مصابون بمرض الشيزوفرينيا -انفصام الشخصية- (كما تقول أبحاث الطب النفسي)، ونسبة أكبر من ذلك مصابة بأعراض مشابهة لهذا المرض، لكن بدرجات متفاوتة.
ولكل وجه تراه وجه آخر مشابه له بالشكل مغاير له بالسلوك، مختبئ في عقله الباطن، تُظهره الحوادث، وتصقله الظروف.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.