يبدو أن الجدل القائم اليوم حول ما يسمى ثورات الربيع العربي لم يعد يتعلق بالسؤال عما كانت هذه الثورات فشلت، فقد بات من السخف والسذاجة السياسية -كما يرى الكثيرون- أن نشكك في فشل الربيع العربي؛ بل أصبح الجدل اليوم حول ماهية هذا الفشل وأسبابه وأبعاده.
وقد يكون هذا التوجه عقلانياً ومنطقياً إذا ما نظرنا إلى التغيرات المأساوية التي عصفت بالشرق الأوسط والتي أدت إلى انحدار المنطقة إلى "حالة من الهستيريا" والفوضى عقب اندلاع ثورات الربيع العربي.
فقد تحولت مسارات الربيع العربي إلى حروب أهلية، أو اقتتال طائفي، أو تطرف إسلامي غير مسبوق، أو إعادة لديكتاتوريات أكثر استبداداً وأشد فتكاً. كما أن هذه الثورات قد أسهمت إلى حد كبير في نشوء موجة من الكوارث الصحية والنكبات الإنسانية، لم تشهدها المنطقة منذ زمن.
في الواقع، حالة الفوضى العارمة هذه قد دفعت الكثير من المراقبين العرب، وأنا واحدة منهم، والمحللين، إلى اليأس والإحباط.
يبدو أن الربيع العربي بالفعل لم يحقق أي منفعة حقيقية على المستويَين المادي والسياسي؛ بل إنه أسهم في إعادة ترسيخ البؤس بمنطقة كان يسودها البؤس أصلاً. فقد أصبحت مشاهد القتل والتعذيب والتشريد والذبح والدمار هي جل ما يتصدر المشهد العربي اليوم. ولم يبقَ لدى العربي اليوم ما لم يُنتهك ويُدنس؛ الدين والوطن والهوية والكرامة والأرض والمقدسات، كل شيء قد تم تدنيسه.
ولا يكاد يمر يوم إلا ويستفيق فيه العربي على واقع أشد مرارة وبؤساً من ذي قبل، سواء على الصعيد السياسي (الأزمة الخليجية على سبيل المثال) أو الثقافي (الفتاوى التي تبيح "معاشرة الزوجة الميتة") أو الإنساني (تفشي الكوليرا في اليمن) أو الاقتصادي (البطالة في مصر)… إلخ.
وبينما كنت أتخبط، كأي مشاهد عربي، في حالة من التشاؤم واليأس أمام حالة الفوضى هذه، بدأت بقراءة كتاب بعنوان "الربيع العربي.. نهاية ما بعد الاستعمار" (The Arab Spring: the End of Postcolonialism) للباحث والأكاديمي الإيراني-الأميركي حميد دباشي.
في الواقع، تفاؤُل الكاتب وتضامنه مع ثورات الربيع العربي (رغم أن الكتاب قد نُشر في بدايات الثورات)، أعطياني شيئاً من الأمل ودفعاني لإعادة التفكير في إنجازات الربيع العربي، ليس على المستويَين المادي أو السياسي؛ بل على المستويَين المعرفي والفكري.
أولاً، علينا أن ندرك أن ثورات الربيع العربي ليست ثورات سياسية بحتة تهدف إلى إسقاط أنظمة سياسية، كما كتب حميد دباشي، وإنما هي أيضاً ثورات معرفية. فعندما هتف الشعب بإسقاط النظام هو لم يُرد فقط إسقاط النظام السياسي؛ بل أيضاً النظام المعرفي؛ نظام العبودية والاستبداد.
وقد أشار بعض المحللين، في هذا الصدد، إلى "الفتوحات المعرفية" التي حققتها الثورات العربية. ففي مقال نُشر على موقع الدراسات العربية والتطوير بعنوان "الوعي العربي الجديد"، تحدث فيه الكاتب عن الإنجازات التي حققتها ثورات الربيع العربي على مستوى الأفكار والتصورات والرؤى، وكيف أن الربيع العربي "قد منح الوعيَ العربيّ سنوات ضوئية من الإدراك والفهم وتعديل الرؤية وفهم التوازنات التي تحكم المشهد كله بشكل عام".
وفي هذا السياق أيضاً، تحدث الفيلسوف الدمشقي-الفلسطيني أحمد البرقاوي عن تغير الوعي العربي بعد الثورات العربية، وكيف أن احتياجات العربي ووعيه للحرية قد تغير، "وقدرته على تحمُّل الاستبداد والقمع صارت أقل".
وأضيف إلى ذلك، أن الثورات العربية لم تغير وعي العربي بذاته وبواقعه فحسب؛ بل أيضاً غيَّرت وعي العالم بالكائن العربي؛ فرغم فشل الربيع العربي سياسياً، غيرت هذه الثورات الكائن العربي ودفعت العالم -والغرب تحديداً- إلى إعادة التفكير في معنى أن يكون المرء عربياً.
فقد أجبرت هذه الثورات، على سبيل المثال، الغرب على إعادة النظر في مفهوم "الغرب والآخر" (the West and the rest)، حيث إن الغرب، ومنذ عقود، قد عمل على تصنيف العربي على أنه "الآخر" المتقاعس والمقموع والسلبي والمنهمك بتدينه المتخلف، الرافض لكل أشكال الحداثة والديمقراطية، حتى إن الكثير من المحللين الغربيين لطالما أرجعوا سبب فشل الديمقراطية في العالم العربي إلى طبيعة المجتمعات العربية العاجزة وغير المؤهلة لحكم ذاتها وغير القابلة للتمدن واستيعاب "مفاهيم الليبرالية الغربية"؛ من حرية وديمقراطية وما إلى ذلك.
ولكن انتفاضة العرب هذه غيَّرت معايير تصنيف "الآخر" وأجبرت الغرب، وضمنهم الباحثون والمحللون، على إعادة التفكير في العالم العربي، وربما على إحداث نظريات جديدة لفهم الثورات العربية وإدراك هذا "الكائن العربي الجديد".
هذا لا يقتضي أن العربي يجب أن يكون مهووساً، أو حتى مكترثاً، بتصنيف الغرب له، وإنما يدل على قدرة العربي على إحداث تغيير حقيقي على الأرض. كما أنه يجدد الأمل والإيمان بـ"إرادة الشعوب العربية" وقدرتها، ليس فقط على تقرير مصيرها وإسقاط ديكتاتوريات راسخة -ومدعومة غربياً- بل أيضاً على خلق مفاهيم جديدة عن العرب والعالم العربي (مما يدفعنا إلى إعادة تقييم "نظرية المؤامرة" التي لطالما هيمنت على العقلية العربية وكثيراً ما دفعت العرب إلى إسقاط فشلهم وتبرير تقاعسهم بسبب المؤامرات الخارجية).
قد تبدو هذه القراءة للربيع العربي "وردية" (ولا أعتبر نفسي شخصاً متفائلاً بطبيعة الحال) ومبسطة جداً وغير ملمّة ببديهيات قواعد اللعبة السياسية، ولكن بغض النظر عن كل العوامل الداخلية والخارجية التي ساهمت في إجهاض وإفشال الربيع العربي سياسياً، الربيع العربي أنتج كائناً عربياً جديداً بوعي جديد وإرادة جديدة، وفكراً جديداً، وكل ما علينا الآن أن نُحدد نحن العرب، العرب فقط، سماتِ هذا العربي الجديد، وأن نقرر من هو وكيف يكون (أو لا يكون) عربي ما بعد الثورة!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.