الدين في أميركا

الأمريكيون عموماً -بحسب تجربتي هنا في الشمال الشرقي للبلاد- متسامحون مع الأديان، وهذا التسامح سببه الأصلي تجاوز فكرة الدين، والنظر إليه لا باعتباره وسيلة تواصل بين الخالق وخلقه، وإنما مجرد جانب من جوانب الحياة ووسيلة لخدمة الإنسان (المركز) ومكملاً لرخائه، وبالتالي فمكان العبادة مثله مثل صالة الألعاب الرياضية والمطعم والمكتبة..

عربي بوست
تم النشر: 2016/04/20 الساعة 04:05 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/04/20 الساعة 04:05 بتوقيت غرينتش

من الشائع جداً أن تسمع جملاً على شاكلة (تعلمت القفز على الحبال عندما كنت أمحو الأمية في غواتيمالا) أو (تناولت حساء التماسيح عندما كنت أتعلم البرتغالية في غينيا الاستوائية) على ألسنة مراهقين وشباب أميركان صغار سافروا في سن صغيرة وقاموا بأشياء مدهشة من هذا القبيل.

ولأن الفرص كثيرة ومتنوعة فعند أغلب الناس حكايات من هذا النوع، وهم يعتقدون، محقين غالباً، أن عندهم من القصص "الروشة" ما يستحق اهتمام الآخرين، وبالتالي فالحصول على كأس التميز صعب جداً.

وكثيراً ما كنت أتعجب من هذه الرغبة المجنونة في التفاخر بشكل فج طفولي على الرغم من التجاهل الواضح -العدائي أحياناً- من الآخرين الذين لا يطيقون حديث غيرهم عن نفسه وخبراته؛ لأن عندهم هم أيضاً حكايات لا تقل روشنة عن هذه الحكايات يريد كل منهم أن يلفت بها الاهتمام لنفسه.

هذا الانشغال الدائم بالذات إلى درجة الهوس، من أكثر الأشياء وضوحاً هنا. ضمير "أنا" تسمعه عشرات المرات من ناس يعيشون في عالم كل ما فيه يدعوهم لتحقيق ذواتهم وصناعة أسطورتهم الشخصية المكونة من الخبرات المميزة التي مروا بها والبلاد التي سافروا إليها والأكل الغريب الذي أكلوه والأعمال التطوعية التي شاركوا فيها، بدءاً من فيسبوك الذي يعرض فيه كل منهم إنجازاته وصوره الشخصية وروعة حياته، مروراً بالمطاعم السريعة التي تسمح له بالتعبير عن تميزه وانفراده عن الآخرين، عن طريق اختيار مكونات الساندوتش الذي سوف يأكله بأدق التفاصيل، إذ لكل إنسان ذوقه المختلف النابع من شخصيته المتميزة، ولا مجال للتشابه، ولولا اختلاف الأذواق لما وجد الناس وسيلة للتعبير عن تميزهم، وانتهاءً باختيار مجال الدراسة، حيث تتيح لك الجامعات اختراع مجال خاص بك وحدك عن طريق دراسة مواد متنوعة من اختيارك فتتخرج في النهاية بتخصص مثل (سياسات الشرق الأوسط الاقتصادية وتأثيرها على التوازن البيئي في البحر المتوسط)! ولذلك فمن الطبيعي أن تخرج التنمية البشرية من هذه البيئة.

لا أحب هذا النوع من المقارنات ولا أقصد أبداً أن أسوق الكلام على سبيل المفاضلة السطحية التي تنتهي بـ(الحمد لله على نعمة الإسلام) لكنني كنت أفكر أنه عند درجة معينة من التشبع بالتمركز حول الذات لدرجة العبادة، يصعب على الإنسان أن يتقبل فكرة وجود إله "له الخلق والأمر"؛ لأن ذلك يقتضي بوضوح نقل المركزية من الإنسان إلى الله..

الله، في منطق المؤمنين، لا الإنسان، هو المطلق والأشياء تكتسب الصحة والخطأ بوصف الخالق لها. قالت لي زميلة أميركية ذات يوم، إنها ترفض فكرة الاعتماد على إله وتعتبر ذلك نوعاً من الضعف والهروب وتفضل أن تكون مسؤولة أمام نفسها بدلاً من أن تكون مسؤولة أمام إله.

في هذه البيئة تصبح الأفكار الصوفية مثل افتراض الولاية في كل إنسان؛ لأن هناك ما يسمى بالولي الخفي، أي شخص قريب جداً من الله وعظيم القدر، لكننا لا نعرفه لأنه "رب أشعث أغبر ذو طمرين مدفوع بالأبواب لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبرَّه"، وفكرة صدقة السر "حتى لا تعلم يمينه ما أنفقت شماله"، وفكرة التحذير من مفاهيم مثل الرياء والعجب ومراقبة الله بدلاً من مراقبة الناس وعبادة السر عموماً..

أفكار من الصعب جداً شرحها (لا أعتقد أن هناك مثلاً بديلاً إنجليزياً دقيقاً لكلمة الرياء) حتى الروحانية يختلف معناها من تنقية النفس للوصول لله كهدف نهائي، إلى تنقية النفس للوصول لصفاء النفس والاسترخاء، فالنفس هي المبتدأ والمنتهى. ينعكس هذا على النظرة العامة للدين هنا لا باعتباره مقدساً وإنما مكمل لرخاء الإنسان.

الأميركان عموماً -بحسب تجربتي هنا في الشمال الشرقي للبلاد- متسامحون مع الأديان، وهذا التسامح سببه الأصلي تجاوز فكرة الدين، والنظر إليه لا باعتباره وسيلة تواصل بين الخالق وخلقه، وإنما مجرد جانب من جوانب الحياة ووسيلة لخدمة الإنسان (المركز) ومكملاً لرخائه، وبالتالي فمكان العبادة مثله مثل صالة الألعاب الرياضية والمطعم والمكتبة..

مجرد مكان لتلبية حاجة من حاجات الإنسان المختلفة. وظيفة الدين في هذه الرؤية، أنه يشبع الجانب الروحي في الإنسان، وبالتالي لا يهم حقيقة أي دين تعتقد ما دمت سعيداً، وبالتالي فليس من المستغرب أن تجد ملحداً يمارس اليوجا أو الزن أو يتعرف على الأديان الأخرى، ويبدي إعجابه بها.

ومن الشائع كذلك أن تسمع جملة: أنا لا أؤمن بدين معين.. أنا أؤمن بكل الأديان. لكن هذا الإيمان بكل الأديان هو في حقيقته كفر بكل الأديان، فمعنى ذلك أن محمداً ليس نبياً وعيسى ليس نبياً ولا إلها ولا ابن إله وليس ثمة رسالة أرسلها الله ليتواصل مع البشر، وإنما كل الرموز الدينية بشر اجتهدوا وحاولوا الوصول إلى الحقيقة أو سر الحياة مهما اختلفت تسميات هذه الحقيقة (الله، الطاقة، الطبيعة، يسوع.. إلخ) والأديان ليست أكثر من اجتهادات بشرية فيها الحلو والسيئ.

من أبرز النماذج المعبرة عن ذلك النمط الذي يؤمن بكل الأديان، والمتسق جداً مع المزاج العام في أميركاً (أو على الأقل في الشمال الشرقي) الكنيسة التوحيدية العالمية universalist Unitarian church

وقد دعت هذه الكنيسة وفداً من المركز الإسلامي في "ماين" للتعريف بالإسلام وعرض كيفية العبادة لرواد الكنيسة، وكنت من ذلك الوفد. هذه الكنيسة بلا عقيدة، وتقبل الناس من كل الخلفيات الدينية واللادينية، فتجد فيها الملحدين والمتشككين، إلى جانب الوثنيين والربوبيين والقائلين بوحدة الخلق ولا تتبنى وجهة نظر واحدة للعقائد، بل تؤمن أن الدين مسألة شخصية جداً، وبالتالي فللإنسان الحق في اعتناق أي دين يحب.

تأخذ تلك الكنيسة الأشياء الجميلة من كل دين، وتتجنب الأمور التي تزعج إنسان القرن الحادي والعشرين، وتؤمن أن الذي يربط أعضاءها ليس رابطة العقيدة وإنما "الإيمان بقوة وقداسة العقد المبني على الحب غير المشروط"، وهذا الحب كافٍ جداً لجمع الأعضاء تحت راية واحدة. التعليم الديني للأطفال مبني على تعليمهم قداسة الأرض والأديان كلها، ولذلك طلبوا من المركز الإسلامي في "ماين" أن يقوم بعرض الإسلام، فحكى إمام المسجد قصة سيدنا يونس، عليه السلام، لأطفال الكنيسة وقدم عرضاً عن مبادئ الإسلام العامة وعقائده، وقمت بالأذان، وصليت إماماً ركعتين أمام الجمع المحتشد ليشاهدوا كيف يمارس المسلمون شعائرهم.

ومع ذلك، فأعضاء هذه الكنيسة عددهم حوالي ٩٠٠ ألف في أميركا يمثلون حوالي 3% من السكان، (ومعظمهم في الشمال الشرقي بالمناسبة) وهي نسبة ضئيلة مقارنة بنسبة البروتستانت على اختلاف طوائفهم، والإنجيليين البروتستانت مختلفون تماماً عن التوحيديين، هنا تجد إيماناً واضحاً بعقيدة ورغبة في الدعوة لهذه العقيدة. حضرت قداس يوم الأحد في إحدى تلك الكنائس بدعوة من بعض الأصدقاء. بعد الدرس الديني كلمني القسيس، وهو من الجنوب من نورث كارولينا، ودار بيننا هذا الحوار القصير:

-أنت من مصر؟
ـ نعم.
أنت مسلم أم قبطي؟
ـ مسلم. لقد قرأت القرآن!
ـ جيد. هل تعرف أن المسيح مذكور في القرآن؟
ـ نعم، أعرف.
ـ هل تعرف أنه ذكر في القرآن أنه روح الله؟
ـ نعم أعرف ذلك!
ثم سادت لحظة من الصمت المحرج. كان الرجل متعجباً قليلاً ولولا الملامة لسألني: إذا كنت تعرف ذلك فلماذا ما زلت مسلما؟! لكنه تدارك الأمر قائلاً:
-لا بد أن نلتقي مرة أخرى.. سوف نتكلم كثيراً عن المسيح!
ـ لا بأس!

وحين وقع لي حادث بالدراجة بعد ذلك ساعدني ذلك القس كثيراً وأوصلني بسيارته للمستشفى أكثر من مرة، وكان يتحين الفرص للكلام عن السيد المسيح عليه السلام، لكن الفرصة لم تأتِ! وفي يوم ما زارني بعض الناس من الكنيسة وطلبوا مني أن أسمح لهم بالدعاء لي، فوافقت.. شبكنا الأيادي على شكل دائرة، وأغمضوا أعينهم وشرعوا في الصلاة من أجلي!

وقضيت عيد الشكر مع أسرة إنجيلية متدينة لطيفة جداً من الكنيسة ذاتها. وبعد العشاء التقليدي المكون من الديك الرومي، دار الحوار الذي كنت أحاول تجنبه من البداية عن الدين، وقام الأب بإقحام الكلام في السياق إقحاماً، فسأل ابنته:

ـ بماذا تؤمنين؟ قالت:
ـ أؤمن بالمسيح مخلصاً.. إلخ.
ـ ماذا تعتقدين سوف يحل لك بعد الموت؟
ـ أنا متيقنة من أنني سوف أذهب إلى الجنة.
ـ ما هو أكثر شيء تودين فعله؟
ـ أود مشاركة نعمة الإيمان بالمسيح مع كل العالم حتى يشاركوني الفلاح في الدارين.
ابتسمتُ وغيرت الموضوع!

لكن أعجب ما رأيت كان ذلك القس الإنجيلي الغاضب (كيث) الذي زار الجامعة ذات يوم وأخذ يصرخ بأعلى صوته ويبشر بالمسيح ويهاجم الجميع بدءاً من داروين ومروراً بالمسلمين والطوائف المسيحية الأخرى والمسيحيين العصاة، وانتهاءً بالمثليين.

لم أرَ في حياتي قوة نفسية كتلك التي رأيت في ذلك القس. أنا أهرب من الجدل العقيم فراري من الأسد. هذا الشعور القاتل بلا جدوى، الحوار والمنطق يصيبني باليأس والإحباط الشديدين، فقد كنت قديماً أؤمن أن كل شيء يحل بالحوار، وأن مشكلة الناس في عدم المعرفة، حتى تبين لي لاحقاً أن المعرفة والمنطق هما آخر العوامل المؤثرة في اعتناق الناس للآراء، لكن هذا موضوع آخر على كل حال.

ليومين متتاليين، كان ذلك القس يقف من الساعة العاشرة حتى الثالثة يصرخ محاطاً بمجموعة كبيرة من الناس المعادين له والكارهين له حتى النخاع. فتاتان مثليتان قبلتا بعضهما أمامه، وأخذ بعضهم بالسخرية منه والدوران والرقص حوله وسط ضحك الجماهير. لأول مرة أرى العداء الواضح لا لفكرة المسيح والمسيحية فحسب، بل لفكرة الدين والإله ذاتها. كل الحساسيات واللباقة المجتمعية (أو الصحة السياسية: "بوليتيكال كوركتنس") اختفت في هذه اللقاءات العاصفة في باحة الجامعة ووجه الناس الشتائم للذات الإلهية مباشرة.

لم يشعر الشاتمون أنهم يهينون المسيحيين الآخرين، ولم يبدُ أن المسيحيين أنفسهم قد شعروا بالإهانة، إن تلك الحساسية الشديدة تجاه الأقليات الدينية والجنسية، إنما جاءت رد فعل على جرائم الرجل الأميركي الأبيض البروتستانتي، وبالتالي فهو مستثنى من تلك الحساسية، ولكن هذا أيضاً موضوع آخر.

تعجبتُ والله من قدرة إنسان على أن يكون موجوداً في مثل هذا الموقف مع ناس يكرههم ويكرهونه بهذا الشكل. هذا التبادل للكراهية والاحتقار لساعات طويلة منهك للأعصاب ومستنزف للروح. سألته مدهوشاً: ما الهدف من كل ذلك؟ لا أحد سوف يقتنع. أنت تكرههم وهم يكرهونك.. لماذا تعرض نفسك لهذا الموقف؟ قال: عندما كان السيد المسيح على الصليب كان الناس يسخرون منه أيضاً!

بعدها بفترة أخبرني صديق إنجيلي متدين، أنه تكلم مع ذلك القس وأخبره أنه تعمد هذا السلوك. قال: أردت أن أشد انتباههم للكتاب المقدس، وأن تعود المسيحية موضوعاً للحوار والتفكير! كلام غريب. لقد عادت المسيحية بسببه إلى الحوار فعلاً، لكنها صارت موضوعاً للشتيمة وقلة القيمة. ثم تذكرت ناساً كانوا يقولون إنه بفضل أحداث 11 سبتمبر صار هناك في الغرب اهتمام متزايد بالإسلام. يشبه الأمر قول الشاعر:
لئن سائني أن نلتني بمساءة *** لقد سرني أني خطرت ببالك!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد