بعيداً عن التحليلات السياسية وصور الدمار والهدم، وفي قلب العاصمة دمشق، يعيش الآلاف من سكان حلب الذين أخرجتهم الحرب من قبل من ديارهم ورمتهم في أرضٍ لا يملكون بها أي شيء سوى إنفاق المال لتأمين أبسط مستلزمات حياتهم.
عيون هؤلاء النازحين بقيت معلّقة طيلة العام الفائت على معركة حلب التي شهدت محطات عدة، وامتدت لأحياء مختلفة، حتى انتهت بانهزام المعارضة وخروجها من المدينة.
ويريد هؤلاء النازحون أن يعودوا إلى منازلهم، لكن الأمر ليس سهلاً أبداً في الوضع الدولي والعسكري الراهن.
معارك صغيرة لاستعادة بعض المفروشات
وفاء الزين (ربة منزل)، انتقلت إلى دمشق بعد رحلة نزوح من مدينتها، وتستقر حالياً في منزل صغير بمنطقة ركن الدين، حصلت عليه بعد بحث طويل مقابل إيجار 45 ألف ليرة سورية بالشهر، وهي تحلم باليوم الذي ستتمكن فيه من العودة إلى بيتها في حلب، رغم معرفتها بأن الطريق طويل، وأن الرحلة لن تنتهي بسهولة، ولكنها لا تملك سوى الأمل.
تقول وفاء لـ"عربي بوست"، إن زوجها سافر مؤخراً إلى حلب، ونقل لها أخباراً جيدة بأن منزلهم لا يزال قائماً ويحتاج لبعض الصيانة، ولكنه حمل لها أخباراً سيئة أخرى، فالحي الذي كانوا يقطنون فيه بات سيئاً للغاية ويحتاج لجهود كبيرة حتى يصبح قابلاً للحياة فيه.
وقد حاول زوجها حمل بعض الأشياء البسيطة من المنزل خلال رحلات زيارته له، ولكنه لم يتمكن من نقل ما بقي من مفروشات، فهم لا يملكون مكاناً آخر لوضع هذه الأشياء فيما لو أخرجوها، ولأنه يعلم أن "المعفشين" (الذين يسرقون بيوت النازحين وأغراضهم) سيكونون له بالمرصاد حينما يغلق الباب وراءه، فقرر بيعها كما هي بواسطة تجار متخصصين بمثل هذه الصفقات، وغالباً ما تتم العملية في المنزل نفسه، ليتمكن خبراء الشراء هؤلاء من نقلها وفق معرفتهم.
ويحتاج نقل الأثاث والمفروشات كما تقول وفاء إلى بعض الإجراءات، فأي شخص يرغب في نقله مطلوب منه التقدّم بطلب خطي إلى محافظة حلب، يرفق معه ما يُثبت الملكيّة، ثم تحيل المحافظة الطلبات إلى اللجنة الأمنية المخوّلة بمنح الموافقات. وقد تحتاج هذه العملية لبعض الوقت، ولهذا ابتكر الناس حلولاً أخرى غير قانونية واعتمدوا على سيارات خاصة مهمتها تهريب بقايا ممتلكاتهم، وتبلغ تكلفة هذه المهمة في حدود الأربعين ألف ليرة سورية، كما نشطت مهنة نقل الأثاث باستخدام العربات، وهي مهنة بات يمتهنها الصبية لتأمين بعض الدخل لهم.
أما يسرا الحمصي -وهي مدرسة كانت تقيم في حلب- فقد انتقلت إلى دمشق بسبب كثرة القذائف، وتقول إنها قررت العودة إلى منزلها الكائن في حي السبيل، باعتبار أن منطقتها كانت خارج حدود المعارك، ولكنها لم تسلم من قذائف الهاون والصواريخ التي ألحقت الضرر بكثير من الأبنية والمدارس، وتسببت في استشهاد أعداد كبيرة من الناس، وهي متفائلة بعودة الاستقرار الذي قد يساعدها في استعادة حياتها السابقة.
وتعتبر يسرا نفسها من المحظوظين، مقارنة بغيرها من سكان المدينة، لأنها لم تخسر منزلها ولا حتى أثاثها، وهي قادرة على العودة في أي لحظة، لكنها تنتظر بعض الوقت لحين استقرار الأوضاع أكثر، وهي تخطط للسفر حالياً لتزور منزلها تمهيداً للعودة.
عودة المشاريع الحلبية
خلال فترة الأزمة السورية، ومع تدفق آلاف الحلبيين إلى دمشق نشط بعضهم في مشاريع اقتصادية تفاوتت في أحجامها، وتركز قسم منها على مجال الطعام والورش، بالإضافة لمشاريع بسيطة لم تتجاوز شراء أو استئجار سيارة والعمل عليها لتأمين الدخل المطلوب.
يذكر رضا ياسين، وهو مهندس كان يعمل في مكتب هندسي قبل الحرب، وكان يتمتع بوضع مادي مقبول، أنه مع اشتداد الصراع في حلب انتقل إلى دمشق ولم يتمكن من العثور على عمل مناسب، ولم يجد أمامه إلا تأسيس مطعم صغير تشارك فيه مع أفراد عائلته، حيث اعتمدوا على الطبخات الحلبية والنكهات الخاصة بمدينتهم لجذب الزبائن.
ويشير رضا إلى أن العمل في دمشق لم يكن مجدياً كثيراً، فالغلاء الذي يعاني منه الجميع قلَّل رغبة سكان العاصمة في ارتياد المطاعم وتذوق الطعام الجديد.
ويضيف أن عودته إلى حلب ليست قريبة، والسبب تردي الأوضاع الاقتصادية هناك، وضعف فرص العمل خاصة في مجال اختصاصه، لهذا ينوي الاستمرار في مطعمه الحالي، وينسى الهندسة باعتبار أن الحرب غيرته كثيراً.