في ليلة رأس السنة نتلاقى جميعاً في هذا المكان على اختلاف ماهياتنا، نتذكر الأحلام والوعود، ونتوق إلى المعاني التي لَطالما ردَّدناها، وشَدَوْنا بعبق إتيانها.
في ليلة رأس السنة يجذبني كلُّ من على الكورنيش وقتها، ترى هنا إنساناً قد اتَّخذ من السماء منجاةً له في تلك الليلة، وآخر ينسجم حباً مع فتاة تعشقه، ستجد هنا عجوزاً وزوجته تنتهك التجاعيد ملامحهما، ويقتلهما الزمن، ستجد أطفالاً في مقتبل العمر.
لكل فردٍ من هؤلاء حكايته، وغاياته، لكل منهم ذكريات تربطهم بهذه السنة، وتأبى أن ترحل عنهم، هنا تكمن شرذمات من الأحلام والأماني، التي ظللنا نبحث عنها طوال العام دون جدوى، هنا تكمن رائحة عطر لفتاة أحببتها وأبى القدر -أو أبينا نحن- أن يجمعنا اليوم كما كنا نحلم.
هنا تكمن آخر كلماتٍ قالها لي صديق قبل أن يرحل ومعه فتيل من روحي، هنا الدمعات المكتومة التي لطالما أخفيناها في لحظات الوداع، هنا تنتهي كلُّ الأحلام.
يرسل لنا القدر كلَّ عام أسراباً من الأمنيات، تحلِّق فوق رؤسنا، ثم يبيت بريقها خافتاً كلّما مرّت الدقائق، حتى تتلاشى، ونلملم أحزاننا بعدها، أتساءل إذا كان القدر على جسارته تلك يشفق علينا، ونحن أسرى لحزن قد تملَّكَنا، هل يدمع القدر مثلما نفعل نحن؟! هل يتألم في صمت كما نتألم؟ هل يعتليه الهم كذلك لليلة رأس السنة مثلما أفعل؟ هل يخضع القدر لقانون النهاية مثلنا؟
دائماً وأنا أكره النهايات، أكرهها كثيراً، لأنها تسلب منا نشوتنا بالحياة، النهايات تطوقنا، تدخل في قلوبنا الخوف من أن يرحل من نحب، أو أن نرحل نحن عنه، النهايات تسري في قلوبنا حنيناً لذكريات قد انتهت، النهايات تخلق منا أشباه كائنات تتشبث بما لديها، وهي مدركة أنه سينتهي يوماً ما.
في يوم قريب لا محيد عنه، النهايات تجعلنا نخاف المغامرة، نخاف أن ننزوي مع من نحب خوفاً منا أن يرحل ونجد أنفسنا بين أركان حجرةٍ تكاد تمتلئ بعبقه وبذكرياته.
النهاية الوحيدة التي لا أخشاها هي الموت
فالموت رغم كونه نهاية الرحلة، فإنه في حد ذاته بداية لحياة لا أحد يعلم عنها شيئاً، فأنا أحياناً أشتاق إلى أن أعرف ماهيته، إلى أن أدركه بحواسي، إلى أن أعلمه علّه يصبح النهاية الأولى التي أحبها.
تأخذني رائحة المطر في هذه الليلة من ليالي ديسمبر، وكأن السماء تبكي لتواسي المنزوين وحدهم ليلتها يتألمون في دواخلهم، ولَكَمْ دَاعَبَ مسامعي صوتُ المطر الذي يأتي ليضاهي ألحان موزارت وريو. لَكَم أظن أن أجمل ذكرياتنا تحدث في ديسمبر، أو حتى بين أحضان المطر، وكأن في هذا الجو سحراً لا يضاهيه أي سحر، في الشتاء معانٍ كثيرة، تتجلى في هذه الليلة الباردة، لكني أشعر بما قال أنطون تشيخوف، فأنا أيضاً وحيد لا حبَّ يدفِئني.
في ليلة رأس السنة أتنصّل من كل ما اقترفت في هذا العام، وأبدأ بداية جديدة تختلف كل الاختلاف عن سابقتها، في هذه الليلة أرتمي في أحضان أوراقي والموسيقى الكلاسيكية، وأكتب كلَّ ما حلمت به.
أستطيع في تلك الليلة خلال ثوانٍ أن أصبح مع من أحب، أن أكون بطلاً لفيلم سينمائي، أستطيع أن أصبح أي شيء وكل شيء.
في هذه الليلة نمضي مع الثانية عشرة، نمضي إلى حياة أخرى، حياة لا نعرف عنها شيئاً سوى أنها ستنتهي قريباً في ليلة رأس السنة!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.