عندما كنت في شبابي، كنت أسمع الكهول يرددون قول أبي العتاهية:
ألا ليت الشباب يعود يوما…فأخبره بما فعل المشيب
وكنت أظن أني سأفعل فعلهم عندما أبلغ من السن ما بلغوا.
لكنني لما بلغت من الكهولة ما بلغت، وتجاوزت الخمسين، واقتربت من الستين، وجدتني في حال آخر، لا أتمنى ما تمنى أبو العتاهية،
فلماذا أعود إلى الشباب وأنا أعيش اليوم ما كنت أتمناه آنذاك؟ أنا الآن أعيش في المستقبل الذي كنت أحلم به وأسعى إليه في شبابي، فلماذا أتراجع عن أحلامي؟
كم حلمت في شبابي، عندما كنت أعاني الأمرَّين من العمل المجهد، والسعي المتعب،كم حلمت بأن أكون مثل ما كان عليه مدرائي ورؤسائي آنذاك، يجلسون في المكاتب المريحة المكيفة، وأنا أعمل في الجو الحارق، يركبون سياراتهم الخاصة، وأنا أركب حافلة الموظفين، يستمتعون بعطلات نهاية الأسبوع، وأنا أمضيها غالبا في إنجاز ما حملوني من عمل فما وسعته أيام الأسبوع، فهل أبكي الآن على شبابي ذاك وأتمنى عودته؟ أم أتمسك بما أنا عليه الآن من فضل ونعمة ورخاء، كانت يوما ما من أحلامي؟
كم اجتهدت في شبابي في وضع القرش فوق القرش، والدرهم فوق الدرهم، حتى أجمع مايعينني على إكمال نصف ديني، والركون إلى من أسكن إليها، وتكون بيني وبينها مودة ورحمة، وأكون لباساً لها وتكون لباساً لي، تجعل من بيتي عشاً مريحاً نظيفاً مرتباً آوي إليه، بدل بيت العزوبية، بيت الفوضى الذي أنام فيه، وقد أكرمني الغني الكريم فتحقق ما أردت، فهل أبكي على تلك الأيام التي كنت أحلم فيها وأتلهف وأتشوق، فحقق الله لي ما أردت، أم أحمد الله على ما أنعم به علي من زوجة صالحة؟
وكم حلمت باللحظة التي أحمل فيها بين ذراعي أول ولد لي، أؤذن في أذنه (أو أذنها) اليمنى، وأقيم الصلاة في اليسرى، ثم أربي تلك الذرية على الخلق والدين، لتكون عوناً لي في كهولتي، ورافداً لحسناتي بعد مماتي، وقد قلت في ذلك شعراً، أذكر منه:
بني لو تعلم كم…تشتاق نفسي للغد
حتى أراك في صباك… شامخا كالفرقد
تكون إن قلت لساني… أو فعلت فيدي
وإن قضيت مسلماً .. رجوت منك مددي
بدعوة صالحة… في قبري المنفرد
تكون لي عونا إذا… حوسبت عند الصمد
وقد أكرمني الله تعالى، الغني الكريم، بما شاء من بنين وبنات، كبروا على عيني، وتحقق فيهم ما سألت الله أن يحققه في حياتي، وأرجو الله أن يحقق ما رجوت منهم بعد مماتي، فهل أبكي على تلك الأيام التي كنت أتلهف فيها إلى ما حققته اليوم؟ ثم أتمنى أن أعود إليها؟ أم أتمسك بما أكرمني الله تعالى به من نعمة وفضل؟
نعم، قد كنت أعلى همة، وأشد قوة، وأصبر على تكاليف الحياة، لا يتعبني عمل الساعات الطوال، ولاترهقني قلة النوم، أمارس من الرياضة والهوايات ما لا أطيقه اليوم، وأسعى في أعمال ومهمات لاأقوى عليها اليوم، وتلك من مناقب الشباب وحسناته، ولكن، كان بي أيضا من مثالب الشباب ما هذبه تضريس السنين ومعاركة الحياة، فعندما أقارن نفسي اليوم بما كنت عليه آنذاك، أجدني قد تخلصت من بعض مثالب لا يخلو منها شاب مندفع، مثل الرعونة في الطلب، وحدة المزاج، وقلة الصبر على تحقق الغايات، والتسرع في اتخاذ القرارات، وغير ذلك مما لا يخفى على من مر بتلك المرحلة، وما كنت لأرضى بأن أستعيد من الشباب مناقبه، في مقابل أن تعود إلي مثالبه.
ولرب قائل يقول: لا زالت فيك بقية من قوة وهمة، ولكنك لا بد أن تذكر قول أبي العتاهية عندما تمعن في التقدم في السن، ويدب بك المزيد من الضعف، إن مد الله بعمرك وجاوزت السبعين، فأقول لهم، لا أعلم الغيب ولكني لاأظن ذلك كائناً، فقد شهدت والدي رحمه الله في كبره، فكانت له من أسباب السعادة والراحة ما لا أدركه في كهولتي ولم أدركه في شبابي، نعم، لقد كان ملكاً متوجاً، يجتمع حوله الأبناء والأحفاد، كل يقبل يده، ويطلب رضاه، ويتسابق لخدمته، يرى حوله ما أنعم الله به عليه من ذرية حققت آماله، وحملت شيبته، وأراحته بعد تعب، ناهيك عما كان يسميه رحمه الله بأسعد لحظات حياته، عندما يلاعب أحفاده الصغار (أبنائي وأبناء إخوتي وأخواتي)، فتلك كانت قمة سعادته، إن تأخرنا بضع أيام في زيارته اتصل بنا معاتباً، لشدة شوقه لهم، بل كان يقول لنا إيتوني بأحفادي فلا مشاغل عندهم،وأتركوهم عندي وامضوا إلى أشغالكم، فأنا أصبر على فراقكم بضع أيام ولا أصبر على فراقهم مثلها، كيف لا، فهم قرة عينيه، وهو ملاذهم ومهوى أفئدتهم، يجدون عنده من الأنس والمتعة ما لا يجدونه في أي مكان آخر، ومن الحلوى والسكاكر ما لا تفرغ منها جيوبه ولا خزائنه، ومن الحكايا المسلية ما لا يملون من سماعه، ويطلبون منه إعادة القصة مرة بعد مرة، ليس استمتاعاً بأحداثها فقط، بل بطريقته في روايتها، وهو فوق ذلك مرجعهم في كل شأن يطرأ عليهم، رأيه مقدم على كل رأي، وأمره نافذ فوق كل أمر، وهو ملجؤهم إذا استوحشوا، وشفيعهم من عقوبات آبائهم إذا أذنبوا، وما سألنا أولادنا مرة (أين تذهبون في هذه العطلة) إلا أجابوا بصوت واحد ودون تردد (إلى بيت جدّو)، وقلما رأيت في عيون إنسان من بريق السعادة والرضا ماكنت أراه في عيون والدي رحمه الله حين يجتمع حوله أحفاده، وإني لأرجو الله تعالى أن يطيل في عمري لأبلغ من السعادة والرضا بالأحفاد ما بلغ، ولا أتمنى أن أعود إلى شبابي بعد أن ذقت جمال طعم الحياة في المشيب.
عذراً أباً العتاهية، فلست من اتباع مذهبك في الحرقة على أيام الشباب، ولن أردد معهم بيتك الشهير، ولكنني من مذهب المتنبي في التمسك بما بلغت من المشيب، وسأبقى أردد مع أبي الطيب:
خُلِقتُ ألوفاً لو رجعتُ إلى الصبا…لفارقتُ شيبي موجَعَ القلبِ باكيا
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.