خرجت مُشرد النفس، أرى المستقبل يتمثل أمامي في ورقة لم ألمسها، خُيّرت إذن بين ألا أمتحن وألا أمتحن أيضاً، بين الرسوب والرسوب، بين أن أتخلف سنة عن أقراني، وأن أتخلف سنة أيضاً عنهم، لم تأتِ لجنة الامتحان، ولم يكن لها أن تأتي لطالب العلم المعتقل في السجون المنسية والذى اتُّهم زوراً بالإرهاب والتخريب، فقط لأنه يحمل تلك الرسالة السامية، رسالة الحرية والكرامة والعدالة، إن هذه المأساة – مأساة المنع من الامتحانات تحدث مع آلاف الطلاب في كل موسم امتحانات في السجون المصرية وكلها مُرتبة ومقصودة بغرض إزهاق روح طلب العلم وتمزيق إرادة التعلّم.
عُدت في موكب الحراسة إلى ضباط السجن؛ لأنهم استدعوني لتخييري بين الرسوب والرسوب، أما الرسوب الأول فكان أن أتعلق بأمل أن تأتي اللجنة التي لا تعرف مكان احتجازي رسمياً!!، وأما الرسوب الثاني أن أوقع على طلب عدم استكمال الامتحانات، وطلب العودة إلى السجن العمومي في شمال البلاد حتى أكون قريباً من أسرتي ومقر محاكمتي التي سيجري تحديدها لاحقاً في يوليو/تموز. وأودعوني مكتبة يقف على بابها شخص بلباس مدني عرفت منه أن عمله (أخصائي اجتماعي)، دخلت إلى المكتبة مُقيداً "مكلبشاً" وأصررت على ألا أدخلها إلا، وفي يدي قيدي وكتبي؛ لأن هذا القيد سببه العلم والسعي وراء الحرية.
حريّة قد جلبت عليّ اعتقالاً وسجناً وتعذيباً وألماً ورسوباً في كليتي التي طالما طمحت في الانتساب إليها، إذن أنا في مكتبة بها كتب بالية قد غطّاها التراب وكأن هذا الانقلاب قد أتى ليحل بالبندقية والرصاص بدلاً من الكتاب والقلم، جلست مع هذا المدني فراح يسألني عن أي العلوم أدرس؟ فقلت له: العلوم السياسية! فقال: وماذا فعلت لك السياسة إذن؟ وبلهجة ريفية "رمتك للسجن"، فرددت عليه "بل رمتني إلى المعرفة والعلم بحقيقة الأشياء والمجتمع ومواقف لم أكن لأتعلمها لو جُبت بلاد العالم، وقلت ساخراً عرّفتني أيضاً أن مصر لا علم بها ولا تعليم، وما الفوز إلا لأصحاب الجهالة والقُوادة، تعرف يا أستاذ قد أكسبتني هذه التجربة أضعاف الـ19 عاماً التي عشتها -كان وقتي آنذاك 19 عاماً – كان المخبر ورائي في هذه اللحظة يُصغي، وكأنه لا يفهم شيئاً وكيف يفهم وهو يأتمر بأمر رؤسائه فقط، هذه حالة الهرم السلطوي العسكري والشرطي في جمهوريات الموز أجهزة ودُماها، رأس يُحرك رؤوساً تُحرك دُمى وقتلة بلا رحمة ولا شفقة.
جِيء بورقة مكتوب فيها: "السيد الأستاذ الدكتور… عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة…
أتقدم أنا المتهم سيف الإسلام السيد صبحي باعتذار عن أداء امتحانات الفصل الدراسي الثاني للعام الجامعي؛ نظراً لبعض الظروف، وأرجو منكم قبول هذا الاعتذار".
وطُلب مني التوقيع على هذا الكلام الفارغ، كانت الصيغة جاهزة والكلام مُعدّاً سلفاً، والسيناريو محبوكاً كحبكة حبل المشنقة حول رقاب المعدومين، أحسست بأبعاد المؤامرة إذن.. أمسكت بهذه الورقة وقمت بتمزيقها أربعاً وأرسلت الضحك والسخرية من سوء الخط والأخطاء الإملائية والصيغة الحقيرة والورقة البالية، وصمتت ولاح في أفق مُخيلتي مستقبلاً أسوداً بدأت ترتسم ملامحه! طالب متخلف عن دفعته كانت باكورة الكلية وجيلها الأول كم دفعة سأتخلف؟! كم شهراً سأمكث في السجن بلا امتحانات ولا شهادات؟! دارت في ذهني تلك الأسئلة كآلاف الطلاب الذين حُرموا من الامتحانات ولم يُسلط أحد الضوءَ عليهم… دار في ذهني طول المكوث الذين لن تأبه به مصلحة السجون ولا وزارة التعليم العالي ولا أيّ من أدعياء المنظمات الحقوقية في الداخل الذين يدار معظمهم من خلال وزارة الداخلية لإعطاء شكل أن هنالك بعض المنظمات في الداخل أمثال المجلس القومي لحقوق الإنسان الذي تحدث أكثر من مرة أثناء فترة اعتقالي عن سعيه لحصر عدد الطلاب المعتقلين في السجون على ذمة قضايا سياسية، وكم من مرة أسرنا الأمل في الخروج بعد تم حصر اسمائنا بطريقة تثير الحسرة المُضحكة فــ"شر البليّة ما يُضحك"، كما جاء المثل العربي، كان يدور على عنابرنا شخص -لم يحظَ من التعليم بغير الشهادة الإعدادية أو ربما قد أنهاها وهو لا يدرى القراءة الصحيحة أو "فكّ" الخط العربي إلا بصعوبة بالغة- وبصوت النعيق: "مين الطلاب اللي هنا"، ودعني أحدثك عن كم الكوميديا السوداء في عندما كان يسجل الأسماء ويحصرها، هذا في كلية الطب البشري وهذا في كلية الهندسة – وما أكثر طلاب الهندسة في السجون المصرية – وهذا في كلية الألسن وهذا في كلية الشريعة والقانون وذاك يدرس تخصصاً نادراً في كلية العلوم.
الحقيقة أن طلاب الإسلاميين مشهود لهم بالجدارة والتفوق بالجامعات المصرية في شتى التخصصات، خاصة أن معظمهم في تخصصات العلوم البحتة، ونادراً منهم من يتخصصون في العلوم الاجتماعية مثلي وهذا من المآخذ التي ربما يُفرد لها مقال أو ورقة بحثية.
نرجع إلى أمر الامتحانات.. مزقت الورقة المكتوبة – التي كانت جاهزة بمجرد وصولي إلى المكتبة – وقلت سيكون طلب لترحيلي وسيُكتب لمأمور السجن ولا شأن للكلية التي لا تعرف مكان اعتقالي، ردّ المخبر: هذه أوامر..
قلت: فلنجعل الورقة ورقتين إذن.. ولماذا أُرسل لعميد الكلية؟! لا شأن له ولا سلطة له، السلطة سلطة الأمن ومصلحة السجون ولو أقسم عميد الكلية على امتحاني لما غيّر من الأمر شيئاً.. بعد قليل من التفاوض مع هذه العقول التي لا تدرى في حياتها سوى إطاعة الأوامر توصلت إلى كتابة ورقتين ورقة تُرسل إلى عميد الكلية والورقة الأخرى تحت مسمى "الطلب" إلى مأمور السجن، كانت الورقة الثانية – الطلب إلى المأمور- بالطابع والصيغة الرسمية راغباً في ترحيلي إلى سجني في شمال البلاد بجانب مقر محاكمتي وقريباً من أهلي وكان نص الأولى: (السيد الأستاذ الدكتور… عميد الكلية:
أتقدم إليكم أنا الطالب سيف الإسلام.. المقيّد بالفرقة الأولى شعبة اللغة الإنكليزية بطلب تأجيل الامتحانات؛ نظراً لظروف المعتقل غير المؤهلة للمذاكرة ولا للعيش الآدمي. الطالب سيف الإسلام بالفرقة الأولى شعبة اللغة الإنكليزية، ورقم جلوسي 444).
استغرب الإخصائي الاجتماعي من الصيغة، كتبت طالبا بدلاً من متهم، معتقلاً بدلا من سجن، تأجيلاً وليس اعتذاراً… فأجبته أن هذا كل ما لدي، ولن أوقع ولو بالقوة سوى على هذا الكلام، أنا لا أعتذر عن أداء الامتحانات، الكلية هي من عليها الاعتذار لي، وهذه الامتحانات مؤجلة إلى موعد خروجي.
انصرفت وأغلب الظن أن هذه الورقة لن تخرج عن هذا النطاق الضيق المسمى مكتبة، وفوجئت فيما بعد أن الورقة قد وصلت بالفعل إلى يد عميد الكلية. وإلى اليوم لا أجد تفسيراً كيف وصلت الورقة من مقر سجني إذن ولم تعرف الكلية مكان احتجازي؟! وكيف بالعميد الذي تسلمها لم يقدر على إرسال لجنة إلى مقر سجني لامتحاني؟!.. ثمة شيء آمنت به ووعيته منذ ذلك اليوم أن كل المؤسسات التعليمية في مصر مخترقة ولا توجد جامعة حرة أو طلاب أحرار إلا وقد تم إيذاؤهم بشكل من الأشكال.
استقر في وجداني إذاً منذ ذلك اليوم 4 مايو/أيار أنني راسب عن زملائي عاماً دراسياً كاملاً، وأنني لن أُعاود محاولة الامتحان ما بقيت في سجني.. تقبلت الأمر حينئذ فمن أنا وهؤلاء الذين أخرّهم السجن عن الحصول على الشهادات لسنوات قد ملأوا الأرض علماً حين خرجوا منه، أتذكر أنني في ذلك الوقت قرأت مجلداً من مجلدات ابن تيمية في وقت قياسي قد كتبه في السجن، من أنا إذن؟! وما هذا الألم؟! أوَليست قضيتي قضية العلم؟! الله يدبر الأمر وما عليّ إلا أن أستغل وقتي هذا للقراءة والتعلّم.
عُدت إلى هذه الغرفة المليئة بالأعاجيب، واتخذت منذ ذلك الحين قراراً أنني مهما طال بي زمان الاعتقال أو قصر سأهبه للعلم والتعلّم والاستفادة والتجربة من هذا المجتمع المنعزل الذي لا يعرف عنه الكثيرون أيّ شيء، ولربما أكون ناقلاً لبعض ما يحدث داخل مجتمع "المساجين الجنائيين"، ذلك المجتمع الشاذ حقاً الذي ينتشر فيه وجود ضحايا على أشكال بشر مزّقت أشكالهم وفطرتهم طوال فترات الحبس.
جلست في هذه الغرفة مع رجل ذي شيبة أفزعني في مرة قائلاً: قضيت مثل عمرك هذا كله في السجن!! تسعة عشر عاماً قضاها الرجل في السجن لا يخرج منه ليرى الشمس إلا نادراً، قد جاوز الخمسين من العمر وقد ترك الشيب فيه ما ترك! لم يكن يقرب أحد منهم الصلاة أو يعرف ما هي؟! رغم أن كل أسمائهم إسلامية! بدت أفعالي غريبة مستغربة بالنسبة لهم فأنا أقرأ في الكتب وهم لا يجيدون القراءة والكتابة من الأساس أنا أُصلي وهم لا يعرفون كيفية الصلاة، وكأن الإسلام لم ينزل إلى أرضهم، وجدت نفسي أخصص لهم وقتاً كل يوم لأعلم أحدهم القراءة والكتابة وأساسيات الوضوء والصلاة وأركان الإسلام، وما إلى ذلك من البديهات! علّمني هؤلاء أنهم ضحية تقصير وقد جنا المجتمع عليهم قد درجوا على السجن مراراً وتكراراً، ولم تكن مرّتهم الأولى سوى غفوة بعدها حوّلها ظلام السجن إلى عادة ثم إلى سلوك دأبوا على فعله حتى صاروا مجرمون.
جلست على هذه الحال 10 أيام لم يقطع سيرها المتشابه سوى زيارة أمي الحبيبة التي انقطعت عن رؤيتها أسبوعين كاملين قطعت الطريق من أقصى شمال البلاد إلى جنوبها باحثة عن لقاء ابنها صابرة مجاهدة محتسبة، وجدت في سلوى الحديث معها ما أزاح مرارة السجن عني وفي، حضنها ما عاد إليّ روحي التي جفت وفي الحديث إليها ما أذهب عني حزني، لم تحدثني أمي، وكذلك أبي عما ألمّ بي من أمر الامتحانات وكأنها حادث عارض رغم إلحاحي في السؤال أن أعرف ماذا قد حدث؟ كيف تصرّف أصدقائي ورفاق الكفاح؟
الحق أن الآلة القمعية قد قضت على ما تبقى من الطلاب، وأردتهم بؤساء فاقدي الأمل، يبحث كل منهم عن خلاصه من تلك البلاد، وفرحة على سُلّم الطائرة لا تعادلها فرحة أخرى.
عُدت إلى الزنزانة أو قُل إلى المنفى، فوجدت طالباً آخر قد لحق بها، اتهم في قضية مماثلة وقد جيء به من مجمع سجون "طُرة" بالقاهرة، ولكنه أصاب مادتين فقط من ست مواد كانت مُقررة في تخصصه، لم نبق سويّاً سوى خمسة أيّام ملأناها بالنقاشات العلمية والتشارك في القراءة وتعليم من معنا القراءة والكتابة والوضوء والصلاة، كذلك الطالب يكون داعياً في أيّ مكان يزوره انتهت أيّامي الخمس معه، وإذ بالنداء يأذن برجوعي إلى سجني مع انتصاف يوم السادس عشر من مايو/أيار ومع شمس الظهيرة الحارقة تهيأت للرجوع في رحلة طويلة قد امتدت 12 ساعة، طفت خلالها بــ4 سجون مصرية في مُكبل حتى ترك القيد أثره في يدي لعدة أشهر جراء تلك الترحيلة.. لنا معها حكاية أخرى.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.