أصبحت الترجمة تحتل دوراً كبيراً في الحراك الثقافي ومعرفة الآخر والتواصل معه. لذلك نجد أن حركة الترجمة بين اللغات المختلفة -التي كانت على مر العصور والأزمات أهم وسيلة للمثاقفة بين الأمم والشعوب- أضحت تحظى بمكانة مرموقة وتضطلع بدور كبير في معرفة أدوات التواصل مع تلك الأمم والشعوب من خلال لغاتهم وآدابهم وثقافاتهم وعلومهم المختلفة. والاستراتيجيات التي ينتهجونها والطريقة التي يفكرون بها.
ومن ذلك، نقد رؤية مبسطة عن حركة الترجمة بين العربية والفارسية التي بدأها عبد الله بن المقفع بترجمة كتاب "كليلة ودمنة"، وأثمرت ترجمة كثير من الكتب من ذلك الزمان وحتى أيامنا، إلا أن عدد الكتب التي تُترجم من اللغة الفارسية إلى العربية قليل جداً، وهذا يعود إلى جملة من الأسباب؛ لعل أبرزها القطيعة السياسية، وسبب جوهري آخر ألا وهو أن القلة القليلة من العرب هم وحدهم الذين يهتمون بالأدب الفارسي، على الرغم من كوننا الأقرب تاريخياً وثقافياً وجغرافياً إلى الفرس ولغتهم، حيث في الثقافة الفارسية وآدابها كثير من الكنوز والروائع التي تستحق الترجمة والنقل إلى العربية.
ولما كانت معرفتنا بتغيرات الحياة الاجتماعية في ذلك العصر تكاد لا تُذكر، فإن النتيجة التي يمكن التوصل إليها حول علاقة الأدب بالحياة وتغيراتها عمل غير سهل ألبتة، خصوصاً في العصر التيموري، غير أن ظهور الأسرة الصفوية (1486-1724)، قد كان من أهم السمات البارزة للتطورات الاجتماعية والفكرية التي ظهرت في جميع عصور حكم الصفويين، وأثرت في الميادين الدينية والعلمية والأدبية؛ من أبرزها أن الصفويين جعلوا المذهب الشيعي -الذي كان رائجاً في إيران منذ العهود القديمة، والذي كان مذهب الأكثرية في بعض المناطق- المذهب الرسمي للبلاد. وبالطبع، وتزامناً مع انسجام السلطات الرسمية مع المذهب الشيعي، فقد تغير من العوامل الثقافية والفكرية، بالإضافة إلى الشعر والأدب.
وإذا كان هذا العصر جديراً بأن يسمى "عصر الغزل" في الأدب الفارسي، فإن ذلك ليس بسبب جدارة غزله، وإنما بسبب غلبة الغزل في هذا العصر.. وإذا ما كان تطور المدرسة الواقعية منحصراً في مجال الغزل -الذي كان أيضاً في المضمون أو المحتوى فقط- وإذا استطعنا أن نصنف هذه الجهود على أنها تقدم في مجال مضمون الغزل؛ بل يسري إلى القوالب الأخرى أيضاً، فقد أثمرت جهود من هذا النوع في الأسلوب الهندي، لدرجة يمكن القول فيها إن الشعر الفارسي بالمدرسة الهندية قد تقدم في مجال الفكر والمضمون.
أما في العصر القاجاري، عصر العودة والتكرار، فإننا نجد أن هنالك عوامل كثيرة تركت تأثيرها الواضح في الأدب الفارسي خلال هذه المرحلة؛ ومن أبرزها: سقوط الأسرة الصفوية، والاضطراب الذي عم الشعب الإيراني إثر سقوط انعدام العدالة، وضعف المركز. وفي ظل تلك العوامل، فإن الشعر الفارسي فقدَ تألقه بإيران في هذا العصر إلى حد معين. وبذلك، فإن هنالك من يرى أن الشعر الفارسي في مرحلة انفصاله عن الأسلوب الهندي وانضمامه إلى شعر البلاط الرسمي، يدور حول نفسه على قدم واحدة من دون أن يغادر مكانه..
أما في عصر الحركة الدستورية، أدب الحياة والناس، فلم يكن للحرية والقانون حد واضح ومتفق عليه، كما لم تكن هنالك أي مدينة فاضلة يمكن إقرار الحرية والقانون في المجتمع على أساسها، وعلى الرغم من هذا فإنه يمكن العثور على تمجيد كبير للمفهوم العام للحرية والقانون في شعر هذا العصر. وهكذا بذل شعر العصر الدستوري فيأوائل سنوات انقلاب عام 1920 جهوده الأخيرة لحفظ إيران واستقلالها، وسعى إلى حفظ البذور التي كانت تنمو شيئاً فشيئاً في المجتمع الإيراني أمام خداع العامة والأموال الأجنبية، وبعد انقلاب 1920م: كبداية للشتاء الأسود، ماذا كان بوسع الشعر الفارسي أن يفعل في مثل هذه الظروف سوى أن يفقد هدفه الأصلي، أو أن يغمض عينيه عن ذلك مدة من الزمن على الأقل؟
* مقتطفات (مترجمة) من الشعر الفارسي على مر العصور:
• إن زهرة الخزامى حينما لم تر أي أثر من الوفاء في هذه الروضة، فإنها لن تترك كأس الشراب ولن تضعها على الأرض أبداً.
• قلت لها إن لون وجهك أصبح وردياً (بلون الأزهار) من الشراب، فابتسمت شفتاها متسائلةً: ولكن، أي زهرة من هذه الأزهار؟
• (في هذا) الليل المظلم والخوف من الأمواج وهذا الإعصار الهائل، كيف يعلم بحالنا خفاف الحمل (الذين هم) على الساحل؟
• إن الغواصين يخاطرون بأرواحهم بحثا ًعن اللآلئ، في حين أن الذين يجمعون الأصداف على الشواطئ في منأى عن الخطر.
• عندما تصبح أنت الساقي فإن الندامى سوف يحتسون الكأس حتى الثمالة، فعلى قدر عظمة البحر يكون اتساع السواحل.
• إن شهداء نظراتك لم يرفعوا صوتهم بالشكوى أبداً، وكأنهم قد سُقوا ماء سيفك ممزوجاً بالكحل!
• عندما يكون الفم خالياً من الأسنان، فإن الضحكة ليست في مكانها، كما أن الدكان الذي لا متاع به ليس حرياً بأن يفتح.
• يعيب الناس على حب العرب، يقولون لي: لا تُحبب العرب، فكيف لا أحب العرب ومحمد عربي؟
• إن قصة آدم وحواء كهال وهم وكذب، فأنا من سلالة القرود، وما كوني من التراب إلا أسطورة.
• إن حكومة الأرستقراطيين ما هي إلا عار
وما هذه الألوان إلا خدعة
على الرغم من أنه لا لون يعلو على اللون الأسود
عُد أيها السيد بحق لونك الأسود.
* من كتاب "الأدب الفارسي.. منذ عصر الجامي وحتى أيامنا"، تأليف: د.محمد رضا شفيعي كدكني، ترجمة: د.بسام ربابعه، سلسلة عالم المعرفة، العدد (368)، الكويت، أكتوبر/تشرين الأول 2009م.
* للتأمل:
من سمات المثقف: التواضع الوجودي، والتقى الفكري، والمعرفة النسبية!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.