“ثوب العيرة ما بيدفي”

وليس أدل على النقص في ثقافة الانتماء إلى الوطن اليوم من تكدّس النفايات في عدة بلدان من المنطقة العربية في مشهد مفزع يعكس انهياراً لهذه القيمة؛ حيث يحرص الناس على نظافة بيوتهم ولا يأبهون لنظافة وطنهم إحساساً منهم أن البيت ملكهم ومسكنهم، أما الوطن فهم لا يملكونه.

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/07 الساعة 08:34 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/07 الساعة 08:34 بتوقيت غرينتش

"والله اشتقنا للشام يا أمي"
هكذا قال صديقي خلال أمسية عائلية سورية جميلة كنتُ مدعوة لها في مدينة إسطنبول، فتنهدت الخالة وبدت على وجهها علامات الحسرة؛ إذ كان جلياً في نظراتها شوق المحب المفترق.

أبحرت في مقلتيها اللتين خطت عليهما الحرب ألماً عبثاً تحاول إخفاءه بابتساماتها، فخيّل لي أنها قد عادت بذاكرتها إلى تفاصيل بيتها الكبير في دمشق واستنشقت رائحة الياسمين المنبعثة من حديقته، وكأنني بضحكات الأطفال البريئة المتعالية من حارات الشام القديمة وهم يحتفلون بالعيدية ويأكلون المعمول الشهي، تطرق سمعها متماهية مع رائحة القهوة المنبعثة من الزقاق المجاور بعد العصر.

تساءلت حينها عن إحساس المهجر من وطنه الجريح وهو يراقب نهش لحمه من بعيد؛ لتأتيني الإجابة بعدها بيوم وأنا أتمشى في شوارع إسطنبول رفقة أصدقائي عندما بلغني خبر حدوث هجوم إرهابي في الجنوب التونسي وارتقاء شهداء من الأمن الوطني.

كان الموقف قاسياً جداً، خصوصاً أنني لا أملك أية تفاصيل ولم أتمكن من الإبحار على الإنترنت؛ كي أعرف ماذا يحدث بسبب سوء الشبكة.

ساعات مرت عليَّ كالدهر قبل العودة إلى الفندق والاتصال بأصدقائي؛ لأعرف أنه قد تم القضاء على الإرهابيين دون خسائر في صفوف الأمن والجيش، فشعرت أخيراً أن صخرة ثقيلة قد أُزيحت من فوق صدري. فقد كان إحساساً مريراً مرارة العلقم أن يُعتدى على وطنك وعلى حماته وأنت عاجز حتى عن فهم ما يحدث.

ربما لن نفهم معنى الوطن إلا إذا سافرنا خارجه، ولن نفهمه أكثر إلا إذا اغتربنا وأقمنا في غيره، لكننا قطعاً لن ندرك معناه بحق إلا إذا ما أُبعدنا عنه قسرياً، حينها فقط سنفهم أننا لا نسكن الوطن بل هو مَن يسكننا، وأن كل ذرة تراب في أرضه أثمن من كل العالم، وسنعي الهمّة الأسطورية التي يتدثر بها الجندي وهو يرابط على حدود وطنه في شتاء البرد القارس وفي حر الظهيرة الصيفية القاتلة حاملاً سلاحه بيمينه وكفنه بشماله تاركاً وراءه أمّاً وزوجةً وأطفالاً.

ولنا في سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- مثل جليّ عن حب الوطن عندما خرج من مكة إلى الغار؛ إذ التفت إليها وقال: "والله إنك أحبّ أرض الله إلى نفسي، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت".

ذلك أن الشعور بالانتماء للوطن لا يخضع للعقائد ولا للمنطق، هو حب لا مشروط ولا ينضب رغم التعرض للأذى في سبيل المحبوب، وهي قيمة تأتي على رأس الأولويات التي يجب أن تلقَّن للأجيال الناشئة.

وليس أدل على النقص في ثقافة الانتماء إلى الوطن اليوم من تكدّس النفايات في عدة بلدان من المنطقة العربية في مشهد مفزع يعكس انهياراً لهذه القيمة؛ حيث يحرص الناس على نظافة بيوتهم ولا يأبهون لنظافة وطنهم إحساساً منهم أن البيت ملكهم ومسكنهم، أما الوطن فهم لا يملكونه.

لكن الإنسان قد جُبل على حب الحياة والتشبث بها مهما قويت درجة حبّه لوطنه، والفارّ من الحرب عندما يلقي بنفسه في البحر أو يواجه خطر تجاوز الحدود الذي قد يجابه بالقنص من قِبل جيوش الدول المجاورة، إنما هو ينفذ من مطرقة الموت إلى سندان الحياة ويلملم في قلبه شظايا وطن فجّرته إرادة الدمار ليفر بها بحثاً عما يضمن له بقاء أطول على قيد "العيش" على أمل أن يعود يوماً إلى حضن الوطن الذي لا يعوض، مصداقاً للمثل الذي يتداوله السوريون "ثوب العيرة ما بيدفّي"، ناهيك عن أن الكثيرين ممن هجّروا من أوطانهم المنكوبة قد حرموا حتى من هذا الثوب؛ إذ توصد في وجوههم الأبواب وتُسد أمامهم السبل، خصوصاً من طرف الدول التي يحملون إرثاً دينياً وثقافياً مشتركاً معها، وقد صدق مَن قال: إن ظلم ذوي القربى أشدّ على المرء من وقع الحسام المهنّد.

وجدير بالذكر في هذا الصدد، بعيداً عن الهجرة الاضطرارية هرباً من الحرب التذكير بحالات التهجير القسري الممنهج الذي شهدته عدة شعوب على أسس طائفية أو إثنية أو عشائرية سواء داخل الوطن أو خارجه، وذلك خدمةً لأغراض إحداث تغيير ديموغرافي عبر إنشاء خطوط عازلة للشعب الواحد فيما بينه مؤسسة على هذه الهويات المختلفة بهدف تحقيق السيطرة الميدانية والسياسية، ولكي تتشكل لاحقاً رقعاً جغرافية أحادية الهوية يمكن أن تصبح سلاحاً في يد هذا الطرف أو ذاك لأي تقسيم يكون أساساً لإنشاء خارطة جديدة للمنطقة.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فبعض البلدات بالبلدان التي تشهد اقتتالاً قد هجّر أهلها قسرياً وتم تدميرها بشكل كامل حتى لا يعود سكانها لها، فتضيع بضياع أبنائها وبخسران تراثها وحضارتها.

فيتيه الإنسان في الأرض بحثاً عن مأوى آمِن لكنه يبقى وأبناؤه جيلاً بعد جيل يعيشون على أمل حق العودة المقدس، وقد أبدعت الدراما العربية في أيقونة فنية تسمى "التغريبة الفلسطينية" في مشهد يجسد المعاناة برمتها؛ حيث يقول أبو أحمد: "توخذيش كل الأغراض يا أم أحمد، خذي الشغلات المهمة. يلّا يابا يا حبيبي امشوا قدامي، كلها يومين وبنرجع يا أم أحمد".
لكن "اليومين طوّلوا يا أبو أحمد".

– تم نشر هذه التدوينة في موقع ميم

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد