استفتاء كردستان من الداخل

بادئ ذي بدء، يجب الإشارة إلى أن معظم ما كتب في الإعلام العربي عن طبيعة الواقع السياسي والصراع بين القوى الكردية، يفتقر إلى النسق التحليلي للمعلومات العامة التي تستنسخها المقالات عن بعضها، ناهيك عن عدم دقة المعلومات المتعلقة بالتركيبة العائلية وخلافاتها الداخلية للسلطة الكردية، وهذا الخطأ في المعلومات وغياب النسق التحليلي يشمل أيضاً وضع الكرد الفيليين/ أو شيعة الكرد، وكذلك الكرد البغداديون وتأثيرهما كنسق كردي خارج جغرافية كردستان.

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/07 الساعة 05:43 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/07 الساعة 05:43 بتوقيت غرينتش

ظهرت مؤخراً شهادات تاريخية متتالية لثلاثة قادة كرد ذوي رؤى سياسية مختلفة، وضمن الإطار السياسي العام لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني. "لقاء العمر" عنوان الكتاب الحواري الذي أجراه صلاح رشيد مع الرئيس العراقي السابق جلال الطالباني، والمقابلة التفصيلية التي أجرتها قناة العراقية على حلقات مع ملا بختيار، مدير المكتب السياسي في الحزب ذاته، والمذكرات التي كان نوشيروان مصطفى (1944-2017) قد نشرها قبل وبعد انشقاقه عن رفيق دربه مام جلال، وتحوله إلى زعيم معارضة داخلية لم يتقدم برنامجها على البرنامج السياسي للحزب الأم.

اطلعت بحكم عملي في الإعلام المركزي لهذا الحزب لأكثر من عقد من الزمن، على التفاصيل التي أسست التناقضات الراسخة في بنية الحركة الكردية في كردستان العراق، وكذلك على التسويغ التاريخي والنفسي والثقافي لاستمرار هذه التناقضات، وقد أضفت مذكرات هؤلاء القادة الكثير إلى الصورة التي نعايشها الآن في طبيعة ردود الأفعال الكردية المتباينة والمتعلقة بعملية الاستفتاء.

بادئ ذي بدء، يجب الإشارة إلى أن معظم ما كتب في الإعلام العربي عن طبيعة الواقع السياسي والصراع بين القوى الكردية، يفتقر إلى النسق التحليلي للمعلومات العامة التي تستنسخها المقالات عن بعضها، ناهيك عن عدم دقة المعلومات المتعلقة بالتركيبة العائلية وخلافاتها الداخلية للسلطة الكردية، وهذا الخطأ في المعلومات وغياب النسق التحليلي يشمل أيضاً وضع الكرد الفيليين/ أو شيعة الكرد، وكذلك الكرد البغداديون وتأثيرهما كنسق كردي خارج جغرافية كردستان.

منذ الانتفاضة الكردية 1991 التي منحت كردستان أماناً ضد عمليات الإبادة الممنهجة التي كان البعث يرتكبها تباعاً، ومروراً بالحصار والحرب الأهلية الكردية التي أوقفتها عسكرياً اتفاقية واشنطن 1998، وصولاً إلى إسقاط نظام البعث 2003، وما تلاها من صدمة اقتصادية مباغتة أنتجت احتكارات مالية كبيرة داخل الأحزاب الكردية الحاكمة، لم يظهر أي مشروع ثقافي أو سياسي مناهض لبنية الحرب الأهلية التي تباركها القوى الإقليمية التي تتقاسم العراق كمجال لنفوذها المذهبي. كل فعل سياسي يظهر داخل كردستان العراق ويتعلق بقضايا راهنة، ينطلق أساساً من زمن آخر مجمد لذاكرة اقتتال غير متقادم، يتنافس عاملان على تحصين هذه الذهنية من التغيير: سياسي يستثمر في الشرخ المجتمعي لتكريس سلطة ما زالت ترمز جغرافيا إلى حدودها المتعلقة بحدود الحرب الأهلية، وثقافي هش يمنح التفكك المجتمعي والتنابز السياسي زيفاً ثقافياً بعبارات متناقضة.

ليست ثرية المجتمعات التي تفتقر إلى التماسك في تمثلها لنفسها، بل وإنما تزيد من عوامل تفككها المفرط، وتصبح متضمنة على قوى طاردة بتعبير الجغرافية السياسية، ما يحول المجتمع إلى فضاء غير متجانس، أكثر تنابزاً وأكثر عجزاً على بناء نفسه كمجتمع ذي هوية، كانت هذه عقبة التخطيط الدستوري المتعلق بأفغانستان التي عكست في برلمانها حضوراً لثلاثمائة طيف متخاصم، وهي مشاكل متجذرة في اشتغال المجتمع الكردي في كردستان العراق على قضاياه السياسية والاجتماعية، وقد قدمت الأقلام الموزعة على القوى السياسية المتعارضة، وصفات فقيرة ثقافياً لشحذ الكراهية داخل المجتمع وجعله مزهواً بافتقاره إلى القدرة على الالتفاف حول مصير مشترك.

على غرار الحالة اللبنانية تحولت الكراهية في كردستان العراق إلى ملف مستقل ومنتج لمعضلات مركبة، ثمة تباه بالكراهية داخل الإعلام والأوساط الثقافية والشعبية. الكل أجانب بالنسبة إلى فكرة الانتماء، وللمفارقة تميع الثقافة الاستهلاكية السائدة كل خصوصية ممكنة، وتخصص قيمة الشيء في أجنبيته؛ الطعام سوري والتجميل لبناني والكافتريات أوروبية والأبنية خليجية.

وقد تكررت عبارة غريبة في بعض شعارات حركة التغيير بداية ظهورها 2011 "سليمانية فوق الجميع وتطهيرها من الدخلاء"، على غرار ألمانيا فوق الجميع للحزب النازي، وسوريا فوق الجميع للحزب القومي الاجتماعي بقيادة أنطوان سعادة.

ثمة تأصيل للكراهية في السعي لجعلها تاريخاً سياسياً للمدن الكردية، لا يجوز قبول أي شيء يقدمه الخصم السياسي، حتى لو كان ينصب في مصلحة جميع الأطراف المتهيكلة داخل العملية السياسية؛ لذلك لا تظهر فكرة الصالح العام؛ لأنها تفتقر إلى مرتكزات تأسيسها ثقافياً وسياسياً.

أزمة الهوية هي المعضلة المغيبة عن النقاشات المتعلقة بالاستفتاء، والانقسام الحدي بين الرفض والقبول مركب من عدة تعارضات، تقود حركة التغيير التوجه المناهض للاستفتاء على مستويين؛ أحدهما يقوده المنسق الجديد للحركة عمر سيد علي، الذي لا يملك ـ لحداثة منصبه ـ أن يغير أي شيء في سياسات الحركة التي صكها المرحوم نوشيروان مصطفى ضد حزب بارزاني، والآخر ظهر فجأة من قبل مليونير شاب لا مكان له في الخارطة السياسية سوى ما يسنده مالياً، ودعم قوة القيادات الخفية التي جعلته واجهتهم.

أعلن المليونير شاسوار عبد الواحد عن تأسيس جبهة مناهضة الاستفتاء داخل حركة التغيير، تدعم الجماعة الإسلامية بزعامة علي بابير هذا التوجه، وفقاً لمسوغات يجوز تداولها إعلامياً دون حرج وترقيتها إلى مستوى الوقائع المعرقلة لعملية الاستفتاء، غير أنها مسوغات تضليلية أكثر من كونها حقائق سياسية؛ إذ لا يوجد نزاع أيديولوجي في كردستان، بل وإنما لاعبون متناظرون يتصارعون على السلطة وملحقاتها الاقتصادية.

لا تتأسس الهوية من تعارضات، بل من تلحيم بعض السرديات المتعلقة بالرموز المشتركة وضرورة القراءة الخاطئة للتاريخ لنسيان النسق الثأري -اقتباساً من آرنست رينان- وإنتاج بدائل ثقافية قادرة على تدوير عملية إنتاج المجتمع لنفسه، آنذاك تبدأ فكرة الصالح العام بجبر الكسور.

لا يقرأ العمل المعرفي في كردستان العراق مجتمعه بشفافية، بل يسعى لحشره في أنماط سلوكية متناقضة وخاصة بمجتمعات ليس في كردستان ما يشابهها، ولم يقدم للمجتمع بديلاً ثقافياً عن إرث الكراهية. على العكس مما تفعله مجتمعات أخرى في سعيها للتخلص من نسق الثأر.كتجربة رواندا وحكومتها التي بدأت من الحضانة والسينما مشروع المسامحة.

الإستفتاء سؤال هوية قبل أن يكون مشروع دولة كردية، ولا يجوز الخلط بين الحق في الهوية السياسية في إطار فكرة الدولة، وبين سؤال القدرة على بناء دولة مدنية مجردة من تاريخها الذي منح القوى العسكرية بالزي المدني مكانتها الراهنة في المشهد الكردي، فالأحزاب الكردية ولدت من البندقية وليس من الكلمة، مع ذلك يبقى حق الكرد في الدولة متعلقاً بالتجريد الخاص بالحق الإنساني في التعيين السياسي، ومحاولة إلحاقه بحزب ما أو فساد السلطة الكردية محض تضليل.

قد لا تتكرر مرة أخرى تزامن كل هذه المعطيات التاريخية التي تجعل الاستفتاء ممكناً، دون الإحالة إلى الموقف الإقليمي الذي لم ولن يتغير أبداَ لذلك، وقد لا يكون رفض الاستفتاء خياراً متاحاًً كما قال القيادي ملا بختيار، سيأتي جيل كردي لم تدمغه الحرب الأهلية بخشونتها متحرر من ضرورة أن يكون كارهاً لغيره، حتى يكون فاعلاً سياسياً، جيل لا يربط مصيره بالشعبوية والقبلية السياسية، بل بالارتقاء بانتمائه إلى مستوى حقه المشروع، في أن تكون له دولة تُمثله وتحترم كرامته.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد