حاولت ذلك اليوم أن ألملم عقلي في أوراقي و أستعد لامتحان اليوم التالي، حاولت بصعوبة؛ أصوات عربات الإسعاف لم تتوقف عن العبور إلى نافذتي، أصوات تمسك بالقلب وترجه قائلةً: "انتفض.. فهناك ما يحدث وهناك سيحدث الكثير". ظل الأمر هكذا طوال المساء، حتى صَرَخت قارئة النشرة: "عادت الأمور إلى طبيعتها في شوارع القاهرة"!
كنت أسكن حينها في المدينة الجامعية، وأخوض اختبارات نهاية الفصل الأول من عامي الثالث بالكلية، وهناك لم يكن لدينا وسيلة نتابع بها ما يجري خارج أسوار المدينة سوى إذاعة "راديو مصر". لم أفهم وقتها ماذا حدث للأمور قبل أن تعود إلى طبيعتها! إلى أن جاء صباح الجمعة، عجز هاتفي عن إيصالي بأي معلومة وأي شخص، وخيرًا فعل.
ساقتني الأقدار إلى وسط غمامة من الغاز عبأت صدري و"عقلي" في ميدان رمسيس، تهاوت أنفاسي في تلك الغمامة وتهاوى معها كل ما تعلمته في الكلية عن الدولة والحكم وسياسة الناس، صرخت من ألم فراغ الهواء في صدري وصرخت من فجعة فراغ الرؤية في عقلي.
ثم انقشعت الغمامة، وحلق الهتاف "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية" وصوت الرصاص يلاحقه!
عرف الشارعُ يومها طريقَه إليِّ، وعرف الهتافُ قلبي، لكن عقلي ظل حينًا يحاول أن يرى.
جاءت غمامة الغاز بسيل لم ينقطع طوال خمسة أعوام، وهؤلاء الذين قضوا يومها وظننا أن دماءهم ثمن الحرية لنا ولمن بعدنا لم يرحلوا وحدهم رحل كثيرون معهم ولم يتوقف الرحيل ولم ينقض الثمن.
كان يناير يفتن قلبي في كل حشد، ويكسره عندما ينقضي اليوم ويتراكم خذلان الصحب.
كان يناير ولم يزل، يرتب الحياة والعلاقات والآمال، ظل يحدد لي ماذا أتعلم وفيما أبحث وبما أهتف وبمن أُغرم.
ظل يناير يُعلمني أن الثورة ليست هتافًا كما ظننت وظن الجميع، ظل يُعلمني أن العدو ليس الرصاصة ولا ذاك الجندي، ولا أن النظام طاغية يسقط بتكبيله بعدما كبلنا.
علمني يناير أن الثورة عقيدة تصنع الإنسان، تفجر الهتاف حينا وتطلق الرصاص حينا، وتتقن حكمة القتال والبناء في كل حين.
علمني يناير أن بعض ما ظننته وبعض ما يظنه الجميع إثما، وأن الإثمَ قتَّال، فلا يغرنك سكون ولا تأخذك عاصفة.
علمني يناير أن الرصاصة ليست عدوا، فلا تشيح بوجهك عنها في كل حين، واعتبر بها وانتبه كل الانتباه لحاملها.
علمني يناير أن الجندي مأمور، فلا أغفل عن الآمر ولا أرحم المأمور، ورُب رحمة بجلادٍ لا يملك من الأمر إلا سوطه أردتك قتيلا أحمق.
وأهم ما علمني يناير واستوعبه عقلي بعد حين وأثمان، أن النظام نظام وليس فردًا مهما طغى، والفرد لا يملك قوة النظام بل هي تصنعه، والفرد لا يرى كل فرد من الجموع ولا النظام يفعل، وفرد الجموع متى يفطن للنظام يُضعِفُ النظام، سُنة عجيبة لكنها سُنة على أي حال كانت!
وبالرغم من كل ما مر لا ننفك عن ذلك اليوم، وكيف نفعل؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.