اتخذت قراري بتعليم أطفالي منزلياً قبل حتى قبل أن أعْلم بنبأ حملي الأول، كنت وقتها أعمل في وظيفة مرموقة في أكبر مؤسسة إغاثية في بريطانيا، أسافر مرة كل شهر على الأقل، أقابل أميرات ونساء أعمال ومذيعات وغيرهن ممن يشهق لهن البنات طرباً وإعجاباً..
قبلها، كانت لدي حياة مثيرة، دوّنت حين كان التدوين جديداً لا يعرفه أحد -كان عمري وقتها ١٦ سنة فقط – نشطت سياسياً، التحقت بالإخوان المسلمين ونشطت معهم ثم تركتهم، خضت الثورة المصرية، وكنت صوتاً عالياً لها واستضافتني جرائد مختلفة مرموقة كالـ"دير شبيغل"، وغيرها، عملت في الصحافة -وهي دراستي وحبي الأول- ثم تركتها، عملت في منظمة طلابية دولية ونظمت مخيمات ومؤتمرات في دول مختلفة وتركتها، احتُجزت وأوقفت 5 مرات على الأقل ووُضع اسمي على قوائم ترقب الوصول في المطار، كان اسمي بارزاً ومعروفاً في جامعتي وخارجها، يرشحني النخبة للعمل في الوظائف المختلفة ويشكرون رجاحة عقلي ويشهقون حين يعرفون سني الحقيقية..
ثم.. لا شيء -لا.. ليست القصة المعتادة بأني تزوجت فانطفأت- بل أنجبت.. أنجبت يحيى ابني، مع إنجابي ليحيى تعطلتُ ووقفتُ.. أطالع أصدقائي -خاصة الشباب منهم- وهم يحضرون المؤتمرات، يحضرون الماجستير ثم الدكتوراه، يسافرون – تشتعل الغيرة في قلبي.. نعم، أنا امرأة غيور وتشعل المنافسة قلبي وطاقتي، أقول: كل أحلامك راحت يا أروى! كل تنبؤات الـ"طنطات" لأمي -"دعيها حتى تتزوج وستهدأ" أو "بكره تتزوج وتعقل" أو "بكره تخلّف وترسى"- تتحقق بشكل مؤلم.. أنظر إلى سنوات الزخم وأقول: ما الفائدة! كله يذهب سدىً، حاولت الالتحاق ببرنامج الماجستير ثم في يوم بكيت وقررت تركه، الآن بطفل واحد يطلب التربية والتعليم منك أنتِ..
الآن، لا مؤتمرات؛ لأنها لا تسمح بحضور الأطفال ويتأفف المنظمون! لا سياسة؛ لأن جريي وراء ابني طوال النهار استنزف طاقتي ولم يعد هناك مجال للجري في المظاهرات والهتاف!. لا وقت للكتابة والصحافة؛ فمصدري سيغلق الهاتف في وجهي فور أن يسمع صراخ ابني! لا مجال للسفر واللقاءات؛ لأن "الناس المهمين" يتأففون من الأطفال، ولأن ابني "هو الشخص الأهم في حياتي"، ومن ثم فلن أتركه لمربية لأرى شخصاً آخر. وأخيراً، انحدار خطير في ذكائي وقدراتي العقلية، فلا مجال للندوات والصالونات الفكرية والمقالات ولا حتى قراءة كتاب واحد إضافي.
قضيتُ وقتاً لا بأس به في اكتئاب شديد، رافقه خروجي من مصر، فحتى الحضور السلبي لم يعد ممكناً ولا متاحاً، حتى قرر زوجي -نيابة عني ورغماً عني- أن ألتحق بدراسة الماجستير، واختار التخصص نيابة عني. نعم، كنت مكتئبة حتى أني لم أقوَ على الذهاب إلى الجامعة للتقديم أو حتى اختيار ما أريد دراسته. اختار "التسويق" أنظر إليه وأقول: أنا! تسويق؟! ليه يا علي؟! يقول باقتضاب: "ستحتاجينه لاحقاً صدقيني".
بدأتُ في الوقت نفسه تعليم يحيى منزلياً، كان عمره وقتها "عامين" أدرس و أُدَرِّس، يأتي زوجي بعد يوم طويل لي وله، يستلم مني يحيى حتى أنزل للجامعة أقضي الوقت في المحاضرات والمذاكرة حتى العاشرة مساءً كل يوم..
بدأت أعرض بعض ما أقوم به مع يحيى على الفيسبوك من باب مشاركة أصدقائي، يتزايد المعجبون بشدة، ثم بدأت الاستشارات تأتي لي، تربوية ونفسية وصحية؛ بل حتى في "كيفية خلع البامبرز"، أتورط أكثر في المؤامرة، الجميع يتآمر عليّ لتحقيق النبوءة المشؤومة سالفة الذكر -"سأكون خبيرة تربوية نصف متعلمة / جاهلة بوزن زائد وأبناء فاسدين". أشعر بالفزع ولا أجيب عن أي رسالة ترد؛ لأنني ببساطة لست أهلاً لها، ولست "خبيرة ".. و أتسائل بيني وبين نفسي: كيف يزيفنا الفيسبوك بهذه الدرجة؟!
وهكذا مع كل متابع جديد، ترتسم صورة جديدة لشخصية أخرى غيري، الأم والزوجة الناجحة نجاحاً باهراً، التي تعيش في تركيا – يا بختها! والتي تدرس وتعمل.. صورة نموذجية.. لكنها للأسف كاذبة تماماً.. فالناس لا يعرفون حياتي السرية..
النوم علي البلاط من شدة الإرهاق بعد يوم طويل؛ الجوع الذي يقرصني في منتصف الليل لأني لم أجد وقتاً للغداء ولا طاقة للقيام لأكل زبادي حتى! اكتئابي وتساؤلاتي عن جدوى ما أفعل؛ شكّي في أمومتي وقدرتي على تحقيق أي إنجاز؛ غيرتي من زملائي الذين سبقوني وتخّطوني وظللت أنا في قعر القائمة؛ والفزع من لعنة النبوءات الشريرة من "الطنطات" المحبات لي بصدق. أما سقف أحلامي الذي انهار فوق رأسي ولا أستطيع أن أزيح ركامه من فوق رأسي، فهو أمر آخر لا مجال للحديث عنه..
وفي يوم بكيت بشدة، حتى تغيّب زوجي عن عمله ظناً أنني سأمرض في هذا اليوم، قال لي: نامي..
نمت واستيقظت فجأة، أشعر بالهدوء، بالرضا والسكينة.. كأنني كبرت ونضجت فجأة..
أقول لنفسي: لقد نجحت ومضيت طويلاً في حياة زوجية يحارب كلا طرفيها لجعلها حياة ناجحة، وأنجبت طفلاً يحرص على شمّي كل صباح.. نعم، يشمني ولا يقبلني! أعلّمه ويعلّمني، أرتّب وقتي ليتسع لعملي -الفريلانسر في مجالي المهني.. ولتعليم ابني منزلياً، أرتب مع زوجي ليجلس مع طفلي في وقت لقاءاتي، أسعى فقط، بغض النظر عن النتيجة..
أحرص ألا يبتلعني وحش الفيسبوك، وألا يُلصق باسمي "خبيرة ال بلا بلا بلا"؛ لأنني لست خبيرة في ما يدعون، أنا أم وفقط: تجتهد، تحاول، تخطئ وتصيب، وتقاوم الاكتئاب وتجبر نفسها كل يوم على النهوض من السرير لفعل شيء إضافي واحد كل يوم، أفشل أحياناً وأنجح أكثر، وهذا مرضي بالنسبة لي..
أفخر بكل خطوة قطعتها في طريقي الفائت، فهي التي عرّفتني وأقنعتني بأهمية تعليم ابني منزلياً، هي التي كبّرت روحي أعواماً طويلة، كل زيارة لبلد جديد فتحت لي آفاقاً من التفكير، وكل نقاش أغضبني وبذلت كل مجهودي لإقناع خصمي بشيء ما أفادني، حتى صراخ المظاهرات أفادني..
لا ينتهي الأمر نهاية سعيدة؛ لأن النهايات السعيدة لا تأتي إلا في الحكايات، وفي عالمي لا يوجد جنيات ولا ساحرات طيبات ولا حتى ساحرات شريرات، يوجد الواقع وفقط..
نعم، أعترف بأنني أنظر إلى الخلف كثيراً، أتوق إلى الانطلاق، وألا يكون خلفي طفل ملزمة به وبتعليمه، ولكني أنظر إلى الأمام أيضاً، أنظر إلى الأمانة، وإلى طفل سويٍّ نفسياً، وأن طفلي يستحق الأفضل دائماً وألا "يُرمى في المدرسة" لأعمل أنا أو أرتاح منه قليلاً، أنظر لطفل متعلم تعليماً حقيقياً، لطفل حر، لطفل سعيد وراض عن نفسه.. فأعي أهمية ما أفعل، لا يبدو الأمر سهلاً كما تظهره صفحات الفيسبوك؛ بل هو أمر شاق ومتعب، الأمر ليس رائعاً طوال الوقت، بل تتخلله الانهيارات والتعب والمجهود القاتل..
أكتب هذا الكلام لأذكّر نفسي به قبل أن يقرأه الناس ويعرفوه.. أفكر بيني وبين نفسي: ماذا لو عرف الناس الحياة السرية لي، هل سأظل الخبيرة المبهرة الرائعة؟ لا أظن.. قطعاً لا..
آسفة.. الحياة ليست رحلة سعيدة؛ بل رحلة شاقة.. على أمل القبول والثمرة إن شاء الله..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.