دخلتُ قبل فترة ليست بالبعيدة في نقاش مع إحدى الصديقات حول ماهية الحكم على الآخر. بدأنا بحقيقة الحكم الأوليّ على الشخص، وما مدى أهمية أحاكمنا على الناس وأحكامهم علينا بالمثل. ما السبب الذي يجعلني أبدي حكماً معيناً مثلاً. ثم أخذ الحديث منحى أعمق عندما بدأت تظهر على السطح وقائع نحاول جاهدين أن ننكرها. الحقيقة أننا لم نصل لنهاية واضحة أو مقنعة لهذا الموضوع، ولكن ما استطعنا الاعتراف به هو أننا لن نهرب من حكمنا على الآخر. مهما تظاهرنا بأن الآخر لا يهمنا، نحن لا نكف عن الحكم عليه وإن اختلف مستوى الاهتمام واختلف نوع الحكم.
دائماً ما أفكر كم هو سهل أن يقرر أحدهم أن ينظر لحياتك من الخارج. يلقي نظرة خاطفة من الأعلى ليبدأ حينها بسرد أحكامه وآرائه التنظيرية بأسهل ما يكون دون أي اعتبار لما يكمن داخل رأسك، والذي يُعتقد بأن وجوده لم يكن يوماً اعتباطيًّا. يتم النسيان أو محاولة تناسي حقيقة كونك إنساناً، كونك من روح الله. يحاول تجريدك من إنسانيتك ويعمل جاهداً على إلغاء نفسك ثم يتشدق بالإيمان بكل ثقة وهو يمارس ماديته في أبشع صورها. يعلم أن الواقع مختلف! ولكن لا يتردد في إبداء تفاجئه حين يتم تذكيره بأنك لست نتاج مصنع ولا وجود لباركود على مؤخرة رأسك. أن تكون نسخة من أقرانك المرضى عن حقيقتهم المستنسخة هي قمة المثالية. ولكن أن تحاول فتح أقفال هذه الدائرة التي أُحكم إغلاقها عليك هي محاولة غير مبررة لمعاقبة نفسك.
أن تطلق حكمك على أحدهم دون أن تتعب نفسك لتبحث أو تتأكد من صحة ما تفكر به، يعني أن ترسم له في مخيلتك رسمة تعكس فيها أفكارك وطريقة رؤيتك للأمور. هنا أنت تظلمه وتهمش كل ما هو عليه فقط لتصادق على هذه الرسمة، بل وقد تطالب الآخرين بكل ثقة أن يصادقوا عليها أيضاً! عندما تقرر بأن تضع توقعات من الآخر أنت تهين عقلك وترهقه قبل أن تفعل مع من أمامك. فأنت تسور له مساحة حددتها أنت وتطالبه بأن يتحرك في نطاقها فقط غير آبه بحق الآخر ورغبته في الانطلاق. وحين يقرر هذا الشخص تحطيم السور أو القفز منه تصاب بخيبة أمل مهما اختلفت حدتها أو قوتها تبقى غير متوقعة ومؤثرة. حتى تبقي على احترامك لذاتك لا تطلق لتوقعاتك العنان أو على الأقل لا تبالغ فيها.
قد يبدو الأمر وكأنه لا يستحق كل هذا التفكير، ولكن بعد أن تقوم ببناء حكم مسبق معين على من أمامك، في لحظة تعاملك معه أنت تستمع إليه أو بالأحرى تقوم بتقييمه لتتمكن من ربط ما يقوله بما تحمله في عقلك عنه. في محاولة للإجابة على تساؤلنا حول الأسباب المؤثرة على رؤيتنا للأشخاص وبناء الأحكام عليهم، يوضح "عبد الله العروي" تأثير الإيديولوجيا على حكم الفرد وهي طبعاً واحدة من تلك الأسباب. فانتماء الشخص واقتناعه بإدلوجة معينة -كما يقول- يجعله يرى الأمور من خلال مقولات هذه الإدلوجة. هذه الفلسفة المستخدمة سياسياً تنطبق أيضاً على الأفراد وتعاملاتهم اجتماعياً.
من هنا نتساءل هل بإمكاننا أن نصل إلى الحكم على الفعل من دون الشخص؟ أن نتمكن من الفصل بين الفعل والفاعل؟ يقول نيتشه في كتابه (جينالوجيا الأخلاق)، وبشكل محدد في حديثه عن أخلاقيات السيد والعبد، بأن الحكم على فعل الآخر لا معنى له عندما يصدر عن من لا قدرة له على ممارسة ما يقوم بفعله هذا الآخر. يوضح نيتشه فكرته من خلال مثال الحمل والطيور الجارحة الشهير. فيقول إن الحمل يحكم على الطيور الجارحة بأنها شريرة لقتلها فريستها، ويعتبر نفسه صالحاً لعدم ممارسته هذا الفعل. في حين أن الحمل لا يمتنع عن القتل لسبب أخلاقي، ولكن ببساطة لعدم قدرته على فعل ذلك. في اعتقادي ستتمكن بعد فهم هذا المثال من تذكر كم من الحملان والطيور الجارحة مرت عليك في حياتك اليومية.
السؤال الذي قد يدور في رؤوسنا من دون وجود إجابة واضحة له هو: لماذا نهتم بحكم الآخر علينا؟
من المرجح أن تكون الإجابة، بالإضافة للاندماج في المجتمع، هي السمعة. في المجتمعات الإنسانية السمعة تشكل قيمة كبيرة عند أفراد المجتمع بشكل عام. فهي رخصة الشخص. أن تكون سمعتك طيبة يعني أن تكون قادراً على كسب ثقة الناس، وقبولهم أن تحمي نفسك من الإعدام اجتماعياً. عندما يخسر الفرد خسارة مادية مهما كانت شدتها، قدرته على استرجاعها سهلة وممكنة، بالمقارنة مع قدرته على استعادة سمعة لامسها ولو شيء من السوء. لأنه سيبقى محل ارتياب دائم، وجدران الشكوك وسوء الظن هي عواقب لا بد له أن يتمكن من تخطيها إن استطاع، مهما تاب وتغير كفرد. عندما تحكم على الآخر، فأنت إما تصنع أو تردم ثقباً في سمعة هذا الآخر، ولو بشكل غير ظاهر. وهو ما أكد عليه أمين معلوف عندما قال بأن أحكامنا ليست بريئة، وبأنها تساعد على ترسيخ الآراء والأحكام المسبقة.
ستظل تحكم على غيرك ولن يتغير شيء، وسيقوم غيرك بتجاهلك وتجاهل حكمك لإيمانه بحقه في ذلك. كما أراها وكما أفهمها هي طبيعة في الإنسان شئنا أم أبينا موجودة، ولكنها تختلف بتفاوتها من فرد لآخر. هناك من يكتفي بما تمت برمجته عليه في عرفه ودائرته، منذ أن كان صغيراً لا يعي ما يحكم، وهناك من لم يكتفِ بذلك، ولكن فضّل أن يبحث ويتحقق بدل من أن يبقى على أحكام رسختها منظومة معينة شكلت أفكاره بأحادية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.