قد تكون الحياة صعبة بسبب فراغ كبير ما، كأن يكون المرء مريضا،ً أو فقيراً معدماً، أو وحيداً مشرّداً، أو ضحية كارثة ما مثلاً، وقد تكون صعبة أيضاً بسبب امتلاء كبير، امتلاء هائل.
أن تكون ممتلئاً جدّاً، ممتلئاً بنفسك وعقلك وقلبك، ممتلئاً بأحلامك، حتى يعجز العالم من حولك عن استيعابك، لا كلّاً ولا أجزاء، لا مكان لك بكل بساطة.
أن تتساءل ما أنت فاعل بنفسك؟ إلى أين تمضي بكل ما أنت ممتلئ به وسط هذا العدم؟ أن تتساءل ما ذنبك إن تعلّمت كثيراً؟ ما ذنبك إن كنت تشعر كثيراً؟ ما ذنبك إن كنت تستشعر جراح الهواء من خدوش الأسلاك أو أنات الطرقات من سير المارّة؟ ما ذنبك إن كنت أنت نفسك تماماً ونفسك أنت؟ ما ذنبك إن كنت أنت الانعكاس ذاته لنفسك؟
أن تولد كبيراً، أن تتجرع الكثير من الحياة مبكراً دفعة واحدة فتقي نفسك من اعوجاجات كثيرة فترسم لها خارطة خطوط مستقيمة وتدرك بفخر أن تلك هي طريقك التي ستسلكها كي تشيّد نصيبك من هذا العالم، إلا أن هذا العالم لا يريدك، لا يريدونك هكذا دفعة واحدة بخارطتك وبكل ما فيك وكل ما عندك، إما أن تتخلى عن فطرتك النقية أو أن تعيش غريباً، غريباً كسحابة بيضاء ناصعة تتسلل بين الغيوم السوداء الملبدة باحثة عن فتحة تطل على السماء، أو كعصفور يغني وسط نعيق الغربان، غريباً كورق شجر أخضر بين أشجار الشتاء العارية، أو كزهرة سحقتها الأقدام ففاح عبيرها، غريباً كوحدتك بينهم، غريباً كثورتك وعنفوانك وسط طمأنينة عفنة، غريباً كدقات قلبك التي تسابق نفسها وسط ضمائر ميتة، غريباً كتاريخ يصارع الجغرافيا كي لا تقتله!… غريب أنت فهنيئاً لك بغربتك..
أن تكون غريباً يعني أن تكون قوياً جدّاً، مخيف أنت ومربك في نظرهم، ليس سهلاً عليهم أن يفعلوا ما بوسعهم لتحطيمك، أن يتفنّنوا في اختراع الأشواك في طريقك ثم يرونك تنتزع قشور تلك الأماكن التي كانت تنزف دماً حاراً، تلك الأماكن التي اندملت جراحها، أشياء كثيرة لم تكن في حسبانهم، لم يحسبوا أنك قنديل مضيء حينما أشعلوا فيك فتيلاً من نار، لقد نسوا أنك بخور عطر حينما رموا بك في كثبان الهشيم المحترق… ليس سهلاً أن يحكموا إغلاق منافذ النور في وجهك ثم يسطع نور قلبك في وجوههم، أرأيت ما أجمل أن تكون غريباً؟
كلّ هذا الضيق، لا بدّ أنه امتلاء هائل، كامتلاء السماء بالليل قبيل الصبح، أو كثقل الحنين في القلب قبل الوصال، أو كلحظة تحوّل اليرقة إلى فراشة.. أوتدري اليرقة أنها قد تصبح فراشة؟ سنتيمتراً بسنتيمتر، لحظة بلحظة تجرّ أحلامها بين العشب والحجر والشجر والبشر، تسير وتسير حتى إذا ما ظنت أنه ما عاد من مسير، انبثقت لها أجنحة وطارت… طارت حيث الأشجار البعيدة في أعالي الجبال… الأشجار البعيدة عن الحطابين، عن الصيادين…
كم كان قلبي يرفّ عندما كنا نلعب الغميضة صغاراً ونغنّي "عصفور فوق الشجرة يعد حتى للعشرة ".. كنت أحسب أنني قد أطير عند العشرة… ورثت من فكرة الطيران ريشاً كثيراً في الرأس فكان القلب دائم الثورة… وفي كلّ مرة كانت تهبّ فيها رياح العدم من حولي، نبت للريش ريش آخر… امتلاء نكاية في العدم، احتواء نكاية في العراء، وحريّة نكاية في القيود… لوّنت الريش… بكلّ ألوان السماء لوّنته، وبألوان الأشجار.. فكانت الطيور تحطّ فتضمّه إلى غمد أجنحتها وكنت أطير معها وفيها… وبينما ينام العالم كانت الطيور تروي لي تاريخ تشرّدها في الجغرافيا… علّمتني أيضاً أنه لا بأس في الضياع والانكسار… فوجع العصفور تسبيح… وفي غربته يحلو غناؤه.
مناجاة:
إنّني يا الله مؤمنة بأن لي جناحين، وأعلم جيّداً أنّه يجب عليّ أن أركض طويلاً وبقوّة دون أن أتوقّف كي تطلقهما… ولكن رغم الهواء الخانق، سأفعل.
لقد ازدحم القاع يا الله وبلغ أعماقاً سحيقة، امتلأت الأرض بالشتائم والحقد، أصبح ذكيّاً من يجيد الكلام السفيه، أصبح ذكيّاً من يجيد النفاق والكذب، وأصبح مجنوناً مختل المدارك متخلّف التفكير أو غبيّاً من هجرهم هجراً جميلاً.
لو أنّ الموت أو الإحساس بالموت كان قريباً من البشر، كما يجب عليه أن يكون فعلاً؛ لأصبحوا أرقى، ولكن ما أشد براعتهم في نسيان ذلك… لقد نسوا ذلك كلّه وتغافلوا عن وجود ربّ الكون، راحوا يعيثون فساداً في أرضه وخلقه، إلا أن الشمس تشرق كل يوم والسماء لا تزال بعيدة جداً عن الأرض، السحب أيضاً تلتف حول نفسها فتمطر، قوس قزح يطلّ بألوانه الزاهية، تتبدد السحب وتشرق الشمس من جديد، إلاّ أن البشر لا يأبهون لذلك كلّه.. أيّ جبن هذا الذي يجعلهم يخافون أن يتذكّروا النهاية! يقاتلون من أجل البقاء والنفوذ ولا يعلمون أن كلّ ما يتصارعون من أجله ليس لهم ولن يكون كذلك.
إنّني يا الله أريد مكاناً يتّسع لقلبي وأحلامي… الأحلام! إنّني أرسمها من جديد كلّما اختفت ملامحها، ألوّنها كي لا تبهت وسط هذا الهواء المتعفّن الرمادي… أفعل ما في وسعي لأحافظ على صفاء قلبي، أفعل ما في وسعي كي أستحقّ أن أرتفع وأطير عالياً… أريد أن أمرّ على كل تلك الجدران المنسيّة وأفتح نافذة في كلّ جدار، أريد أن أكون جداراً في وجه من يوصدون النوافذ، أريد أن أكون زلزالاً لأهز الضمائر النائمة والقلوب الكسولة، أريد أن أجتث كل الزنازين من الأرض وألقي بها في البحر، أريد أن أقتلع تلك الأسلاك الشائكة التي تجرح الهواء وأزرع شجراً يداوي جرحه… لا أريد لمشاعري أن تتبلّد أمام مشاهد الفظاعة، لا أريد للثورة في قلبي أن تخمد، لا أريد لقلبي أن يعرف الكره أو الخشونة والفجاجة رغم كل شيء، سأقبض على قلبي كالجمر، حتى آتيك بك سليماً يا الله، سأقبض على إنسانيّتي وقدرتي على الحبّ والعطاء، سأحب ما دمت أعيش وسأعيش ما دمت أحبّ…
أشكرك يا الله إن نزعت من قلبي الدنيا، إن أخذت بيدي لترفعني كلّما نزلت لألتقط منها ما ليس لي، اجعل يا الله بيني وبينك حبّاً كبيراً أستنير به في طريقي، اجعل يا الله كل الطرق التي سأسلكها تؤدّي إليك.
(مقطع من النّص مسجّل بصوت صديقتي المبدعة بنان اليوسف)
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.