كثيرون تمرّ حياتهم كما السحاب، يخطفهم الموت ويُسكنهم في هذا المكان المسمّى "المقبرة"، منهم عظماء وزعماء وقادة، وقد لا يكون من ميراث لهم سوى المال والعقار، ولكنهم في دنيا الناس وذاكرة المجتمع أصفار في أصفار، سرعان ما تتلاشى أشخاصهم وتغيب عن الأذهان معالمهم.
ولكن القليلين من يترك ذكرى عطرة وآثاراً باقية يخلدها لهم الناس ويذكرونهم بخير ويترحمّون عليهم. ومن أولئك يكون العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، ممن يحزن ويجزع لموتهم الألوف المؤلفة من الناس الذين ينعون مكانتهم ويذكرون الإرث الواسع لهم.
ومن هؤلاء العلماء الأجلّاء مَنْ ودّعته مملكة البحرين يوم الإثنين الماضي 13 فبراير/شباط الحالي. فضيلة الشيخ القاضي إبراهيم بن عبد اللطيف السعد رئيس محكمة الاستئناف العليا الشرعية، حيث احتشدت في المقبرة لتلقي نظرة الوداع عليه جموع غفيرة من أهالي البحرين والخليج العربي، غصّ بهم المكان، تقدّمهم الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن راشد آل خليفة نائب رئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ومعالي خليفة بن أحمد الظهراني رئيس مجلس النواب السابق، وعلماء وقضاة تتلمذوا على يدي المغفور له ونهلوا من معينه، ارتفعت أكفّ ضراعتهم جميعاً بأن يسكنه المولى -عز وجل- فسيح جنّاته.
الشيخ إبراهيم السعد، هو سليل العلم والقضاء، وُلد في مدينة المنامة عام 1938 ونشأ في رحاب أسرة علمية خرج منها قضاة وعلماء أَثْروا المجتمع البحريني عدّة عقود من السنوات. فوالده القاضي الشيخ عبد اللطيف السعد كان من القضاة المشهورين في زمانه، وكذلك أعمامه الشيخ إبراهيم والشيخ علي وعدد من إخوانه الذين كانت مجالسهم مجالس علم يرتادها الكثير من أهل البحرين والخليج العربي. وكان جدّه الشيخ الكتبي محمد بن سعد بن حمود الذي حفظ بخط يده كُتبًاً متنوعة في علوم الشريعة.
وتولّى فضيلة الشيخ إبراهيم السعد الإمامة في صغره، منذ كانت سنّه 14 عاماً، حيث قام بإمامة مسجد السيد عبد الجليل الطبطبائي قبل ابتعاثه إلى القاهرة للدراسة في الأزهر الشريف الذي نال منه الشهادة العالمية في الشريعة الإسلامية عام 1969، ليعيّن حينئذ مدرساً في المعهد الديني وإماماً للمصلين في مسجد الأمير سعد بن عامر في المنامة قبل أن ينتقل للقضاء؛ إذ تعين في عام 1972 قاضياً في المحكمة الكبرى الشرعية ثم أصبح رئيساً فيها.
وفي عام 1999، نُقل إلى محكمة الاستئناف العليا الشرعية وأصبح رئيسها حتى توفاه الله. وقد عرفته منصة القضاء بالإنصاف والعدل، فضلاً عن تميزه بالتواضع وحبّ الخير ودماثة الأخلاق، ومساعدة المحتاجين والمعوزين، والشفاعة لهم والصلح بينهم.
وكان فضيلة الشيخ إبراهيم السعد -رحمه الله- قبل ابتعاثه للأزهر الشريف مدرّساً في مدرسة الرفاع الغربي الابتدائية، وكان من بين من درّسهم صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل مملكة البحرين -حفظه الله ورعاه- الذي حفظ لهذا العالم الجليل مكانته ووفّاه فضله ومنزلته، فلم ينقطع جلالته عن زيارته في كثير من المناسبات وفي مرضه.
كما أن فضيلته -رحمه الله- عُيّن في 1998 إماماً وخطيباً لجامع الفاضل، الذي هو أحد أكبر الجوامع الهامة والتاريخية في البحرين، واستمر على منبره معلماً ومرشداً إلى أن أعجزه المرض عن الاستمرار.
رحِم الله فضيلة القاضي الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف السعد، فقد كان علَماً في القضاء ورمزاً في التربية، وكان من الجيل القديم من العلماء المعروفين بورعهم الشامخين بزهدهم وبساطتهم، حمل راية الدين والعلم، ونشر الاعتدال والتسامح بين الناس، وحصّنهم ضد التيارات الهدّامة.
سانحة:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتَّخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسُئِلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا" [متفق عليه].
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.