تقريباً في سنة 2004 كنت أزور مدينة ريجا عاصمة لاتفيا، إحدى
دول البلطيق، وهي دويلة صغيرة لا يزيد عدد سكانها عن 2 مليون نسمة.
وآنذاك كان أحد أحداث الساعة المهمة هناك أنهم وجدوا كنزاً بالدينار الإسلامي، دينار عبد الملك بن مروان، يعود حسب ما أذكر للقرن الثامن الميلادي، أي قبل وصول المسيحية لهذا الشمال الأوروبي بفترة طويلة جداً.
وكان الكنز فيما يبدو يخص تاجراً لا تهمه الأديان، أو لا يعرف الفرق بينها، وإنما الادخار بأقوى عملة ذهبية في عصره، وهو الدينار الإسلامي.
ذهبت إلى المتحف، ورأيت الدنانير، واشتريت كتيباً صغيراً باللغتين اللاتفية والإنكليزية عن تلك الدنانير، وأذكر أنه في الطريق إلى المتحف رأيت شجرة متحجرة مكتوباً عليها أنها كانت تعيش في نفس العصر الذي عاش فيه توت عنخ آمون!
وقد ذكرتني تلك الدنانير الذهبية بالرجل الذي ضربها، عبد الملك بن مروان، وكان شيئاً نادراً بين الخلفاء، وله قدرة عجيبة على تحويل صراعاته مع أعدائه لأعمال تخلد ذكراه وتقوي دولته، وربما لا يعرف البعض أنه باني قبة الصخرة التي تعد من الآثار الأموية القليلة التي وصلتنا، وأنه أيضاً السبب في تعريب مصر والشمال الإفريقي، وكان من الأشياء التي أنجزها هذا الدينار الإسلامي الأول الذي غيّر وجه الخلافة الإسلامية وحوّلها لإمبراطورية وأكبر دولة في عصرها.
عندما وصل عبد الملك بن مروان للحكم كان العالم الإسلامي يعيش
ما اصطلح عليه باسم "الفتنة الصغرى" التي أعقبت قتل الحسين في كربلاء
سنة 61هــ، حيث ضاع مُلك بني أمية وانقسمت أرض الخلافة لأربع خلافات بينها صراعات
وحروب وتقلبات دموية، يتضاءل أمامها ما نراه في مسلسل "صراع العروش"!
فكان الحجاز وشمال الجزيرة مع ابن الزبير، والشام ومصر مع عبد الملك، الخوارج بقيادة نافع بن الأزرق في المشرق، والعراق مع المختار الثقفي الذي كان يفتك بقتلة الحسين (رضي الله عنه) ويتشفى بقتلهم وأحياناً بحرقهم أحياء، وكان لكل خلافة خليفة يصارع الأخرى، ويعمل لانتهابها والفتك بها.
فالأمويون فتكوا بالزبيريين في مصر وضموها للشام، ومصعب بن الزبير هجم على العراق وفتك بالمختار الثقفي، وأسرف في قتل العراقيين حتى كرهوه فاتصلوا بعبد الملك أن أقدم علينا نبايعك.
فجاء عبد الملك وفتك بمصعب بن الزبير وكان صديقاً له فيما مضى، وعندما عرضوا عليه رأس مصعب، قال ما معناه: "واروه فقد والله كانت الحرمة بيننا قديمة، ولكن هذا المُلْك عقيم".
وبعدها أرسل عبد الملك قائده الحجاج بن يوسف ليفتك بعبد الله بن الزبير الذي اختبأ في الكعبة، فضربها الحجاج بالمنجنيق، ثم اقتحمها على ابن الزبير وقتله داخلها، ثم قطع رأسه وأرسلها إلى عبد الملك، أما جسده فصلبه على مداخل مكة!
وفي هذا الوقت كانت الإمبراطورية البيزنطية تتنمر على الشام، ولو كانوا أذكياء لتجنبوا عبد الملك دوناً عن كل المخلوقات، لكن تعمل إيه في الغباء البيزنطي! المهم لما هاجموا الشام اضطر عبد الملك في سنة 70 هـ – 689م أن يوقع معاهدة مع جستنيان الثاني، ويدفع له الجزية شرط أن يوقف هجومه وهجوم عملاء بيزنطة من المردة الجراجمة لمدة عشر سنوات، حتى يتفرغ لأعدائه من المسلمين في الداخل.
ووافق عبد الملك على أن يدفع للبيزنطيين ضمن ما تعهد به 365 ألف دينار كل سنة، أي ألف دينار يومياً.
وفي العام التالي، وعندما بدا أن عبد الملك في طريقه للتغلب على مشاكله الداخلية، وإعادة توحيد دولة الخلافة تحت حكمه، قرر أن يبدأ انتقامه من البيزنطيين، وبدأ ذلك بضربة اقتصادية، ففي العام التالي (عام 73هــ على الأرجح) ضرب ديناراً عربياً إسلامياً؛ ليتم الدفع به لبيزنطة، وكانت دور سك العملة البيزنطية التي سيطر عليها المسلمون في مصر والشام ما زالت تعمل، وإن كان عمالها من الشوام والأقباط.
وكتب عبد الملك على ديناره من ناحية سورة الإخلاص ووضع على الناحية الأخرى صورته حاملاً السيف، وهذا يعني أنه حذف صورة الإمبراطور البيزنطي (قسطنطين الكبير على الأرجح)، ووضع مكانها صورته.
ولك أن تتخيل وقع هذا على البيزنطيين المسيحيين، وكان هذا -في رأيي- مخططاً له وليس بسبب إتاوة الألف دينار، وليس كما يقول المقريزي بسبب إزالة علامات التثليث من على ورق البردي الذي يصنع في مصر ويصدر لبيزنطة!
فعبد الملك كان إلى جانب حنكته السياسية إدارياً من الطراز الرفيع، ولذا كانت خطته أن يستقل باقتصاد دولة الخلافة المتوسعة عن اقتصاد الدولة البيزنطية المتآكلة، ببساطة لأنك إذا كنت ستحكم إمبراطورية إسلامية مترامية الأطراف فكيف تجعل اقتصادك خاضعاً لعملة دولة معادية في طريقها للزوال؟!
زِد على ذلك أن فرضك لعملتك وشعارك وصورتك على أعدائك يدل على سطوتك وقدرتك، والعكس صحيح بالضبط، ووضعنا الآن خير دليل على ذلك!
وكما خطط عبد الملك بن مروان غضب الإمبراطور البيزنطي جستنيان الثاني بشدة، ولم يقبل بالدينار الإسلامي، رغم أن وزنه وعياره لم يختلفا عن الدينار البيزنطي، ولكنه فهم أن قبوله للدينار الإسلامي سيكون دليلاً على تغير موازين القوى، ويؤثر على مكانة بيزنطة في العالم، ويوحي للجميع بأنه تحت سطوة أعدائه المسلمين.
وبعد عام واحد أوقف عبد الملك دفع الإتاوة لبيزنطة، وبالطبع ألغيت المعاهدة ورجعت الحروب بين الدولتين، فألحقت جيوش الخلافة أول هزيمة بجيوش بيزنطة منذ فترة طويلة، وقد أدت تلك الهزيمة لعزل جستنيان نفسه في سنة 76هـ.
ولكن لاحظ رغم أن صورة الإمبراطور البيزنطي وخلفه الصليب كانت على الدنانير التي استعملها النبي (صلى الله عليه وسلم)، إلا أنه لم يكن هناك حرج من تلك الصورة إبان حياته، ولكن وجود صورة عبد الملك على الدينار الإسلامي لم تزعج فقط جستنيان، ولكنها أزعجت أيضاً بعض علماء الإسلام في عصره؛ لذا اضطر عبد الملك في عام 77هــ على إزالة صورته، واحتلت بالتالي الكتابات العربية وجهي الدينار.
المهم بعد ذلك أنه حدث استقرار مالي واقتصادي كبير في دولة الخلافة، ويمكن أن نشبه ذلك بما حدث عندما بدأ التداول باليورو في دول الاتحاد الأوروبي.
ومع الوقت وزيادة الاستقرار المالي لدولة الخلافة، كان الدينار الإسلامي ينتشر في العالم، وساد العملات الأخرى منذ نهاية القرن السابع الميلادي، حتى إنه وصل لآخر جزء معمور في شمال الكرة الأرضية؛ حيث كانت الوثنية منتشرة، ولم تصلهم المسيحية أو دين روما، كما قال ابن فضلان!
الغريب أنهم عندما تنصروا حدث ذلك من خلال حملات صليبية على الوثنيين قام بها الفرسان الألمان الذين بنوا مدينة ريجا بنفس النمط الألماني في العصور الوسطى، ولذا عندما كنت أسير فيها كنت أشعر أنها تشبه بامبرج القديمة؛ حيث كنت أدرس في ألمانيا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.