تقع ولاية نيوجيرسي عبر نهر هدسون من نيويورك، وعبر نهر ديلاوير من فيلادلفيا.
وطبعاً، لا تنافسهما في الشهرة، لكن، لا بأس، ولاية نيوجيرسي: فيها جامعة برنستون (من أقدم جامعات أميركا)، وفيها أتلانتيك سيتى (حيث كازينو "تاج محل" الذي بناه دونالد ترامب).
وفيها وُلد مشاهير (مثل المغنيين: فرانك سيناترا، وبروس سبرنغستين)، وفيها دفن مشاهير (مثل توماس أديسون، مخترع الكهرباء، وولت ويتمان، أبو شعراء أميركا).
من فلادلفيا، يتجه الطريق البري رقم 67 إلى كوبري ويتمان، ثم إلى مدينة كامدين، حيث حي ويتمان، حيث متحف ويتمان، ومنزل ويتمان، وقبر ويتمان.
وعلى مسافة قريبة، في جامعة بنسلفانيا في فيلادلفيا، "مركز وثائق ويتمان" (توجد وثائق أخرى في مكتبة الكونغرس في واشنطن العاصمة).
تعتبر كامدين مدينة صغيرة، توجد على نهر هدسون المدمرة "نيوجيرسي" التي صارت متحفاً عسكرياً، ويوجد منزل ويتمان، الذي تحول إلى متحف.
يقع المنزل على شارع له اسمان؛ الاسم القديم: "ميكيل" (اسم رجل اسكتلندي أبيض)، والاسم الجديد: "مارتن لوثر كينغ" (زعيم حركة الزنوج للحقوق المدنية).
يستعمل بعض الناس اسم الأسود، ويستعمل آخرون اسم الأبيض (يركز المتحف على اسم الأبيض).
يمكن ربط هذا الاختلاف بأن ويتمان كان عنصرياً في بداية حياته، ثم صار أقل من ذلك (عارض تجارة الرقيق، لكن، قال إن الزنوج لا يستحقون التصويت في الانتخابات).
توجد، عند مدخل المنزل المتحف، مقتطفات من قصيدة صاحبه: "يبني الشخص منزلاً، ليس ليوم، ولكن لكل الأيام، لكل الأعراق، لكل الأجيال، للماضي، للحاضر، للمستقبل".
توجد في المنزل المتحف نسخ قديمة وجديدة من ديوان "غراس ليفز" (أوراق الحشائش)، واحد من أشهر دواوين الشعر الأميركية، وتوجد آخر قصيدة كتبها ويتمان قبل أسبوع من وفاته. قال فيها: "أحس بالألم، ولا أجد راحة، ولا أجد خلاصاً، يسبب الألم السأم، السام، السأم (كررها 3 مرات)".
———————–
قبر ويتمان:
قبل أعوام قليلة، احتفل الأميركيون بمرور 120 عاماً على وفاة ويتمان، ولسبب ما قرر صحفي من صحيفة "واشنطن بوست" الكتابة عن قبر ويتمان، القريب من متحف ويتمان، وقف أمام القبر، وتأمل في عقيدة ويتمان الدينية.
قال إن عقيدة ويتمان هي: "دايزم"، وتعني "الخالقية والربية" (الإيمان بوجود خالق، ورب يدير ما خلق، لكن، بدون الإيمان بالله تعالى، وبدون الإيمان بالوحي الإلهي المتمثل في رسائل الأنبياء)، يصور هذا "إيماناً عقلانياً" (قاد إليه المنطق العلمي، لا الإيمان بالغيب).
يعود أصل كلمة "دايزم" إلى كلمة "ديوس" في اللغة اللاتينية، وتعني إلهاً، لكن اعتماداً على تفسير فلاسفة اليونان القدماء لها (إله بدون وحي إلهي).
وقال الصحفي: إن ويتمان كان يحترم كل الأديان، لكنه كان يرى نفسه مثل "نبي جديد"، ويرى ديوان شعره مثل "كتاب مقدس جديد"، وأنشد في "أغنية إلى نفسي": "أنا مقدس في الداخل والخارج.. أنا أكثر من كنيسة ودار عبادة".
لم يكن ويتمان أشهر من آمن بالخالقية والربية في ذلك الوقت، قبله، آمن بها توماس جفرسون، الرئيس الثالث، وكاتب وثيقة حقوق الإنسان (توفي في الوقت الذي وُلد فيه ويتمان).
كتب جيفرسون عن "الدين العقلاني" (لا بد من وجود خالق ومدبّر).
وكتب ويتمان عن "الدين الديمقراطي" (الإيمان بالحرية كدين، يولد عليها الأميركي، ويعبدها، وتتغلغل في أعماقه، ربما حتى بدون أن يشعر).
مَن هو؟
وُلد ويتمان في هنتنغتون (ولاية لونغ أيلاند)، قبل أن تنتقل العائلة إلى كامدين (ولاية نيوجيرسي).
بسبب فقر العائلة، لم ينتقل من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة المتوسطة، وبحث عن عمل ليساعد والديه وثمانية إخوة وأخوات. كان عمره 12 عاماً عندما وجد وظيفة في صحيفة "باتريوت"، ينظف أرض المطبعة من الحبر الأسود المتدفق.
ثم انتقل إلى صف حروف الصحيفة، ثم انتقل إلى الكتابة، ثم صار يكتب شعراً، ثم نشرت الصحيفة قصيدة كتبها (كان عمره 16 عاماً)، ثم أسس صحيفة "لونغ أيلاندار" المحلية (كان عمره 20 عاماً)، كان الناشر، ورئيس التحرير، والمحرر، والطابع، والموزع.
وعندما فشلت، انتقل إلى صحف أخرى، ثم استقر في صحيفة "بروكلين ايغيل" في نيويورك، وتخصص في الرواية والشعر (كان عمره 40 عاماً).
في ذلك الوقت (عام 1860)، نشر الطبعة الأولى من ديوان "أوراق الحشائش"، واحد من أشهر دواوين الشعر الأميركي.
وفي ذلك الوقت، بدأت الحرب الأهلية بين الحكومة الفيدرالية وولايات الجنوب التي كانت أعلنت الانفصال لتستمر في تجارة الرقيق.
في البداية، كان ويتمان عنصرياً ضد الزنوج، وعارض حركة "أبوليشان" (إنهاء الرقيق) التي قادها رجال دين، ومفكرون قبل 200 عام من استقلال الولايات المتحدة، وقبل 100 عام من إعلان الرئيس أبراهام لنكولن تحرير الرقيق.
لكن، بعد إعلان لنكولن (1863)، وبداية الحرب الأهلية، صار ويتمان معتدلاً، وبدأ يعطف على الزنوج، لكنه اشترط ألا يصوّتوا في الانتخابات.
"أوراق الحشائش":
من قصائد ديوان الشعر هذا قصيدة تقول: "أفتخر بنفسي، أحتفل بنفسي، أثق في نفسي، ومثلما أفترض، تفترض أنت، ومثلما تنتمي لي ذرات جسدي، تنتمي لك ذرات جسدك، ها أنا أتأمل، أركز على أوراق حشائش الصيف".
هذه مقتطفات من قصائد أخرى:
أولاً: عن الفردية: "أنا عملاق، أنا البشرية، أنا متنوع، ومنفتح، ومتعدد..".
ثانياً: عن الروحانيات: "أريد أن أعيش وسط الحيوانات، أريد أن أبحث عن الله في الحشرات".
ثالثاً: عن الواقعية: "نقلوا المعتوه إلى عنبر المجانين، لن ينام مثلما كان ينام في سرير قرب سرير والدته".
رابعاً: عن شعره غير المقفى وغير الموزون: "كلماتي بسيطة مثل بساطة الحشائش على سهل منبسط".
الحلم الأميركي:
أنشد ويتمان للحلم الأميركي قبل أن تصبح العبارة مشهورة، وتصور قصيدة "أغني لأميركا" إيمان ويتمان بالفردية، وبقدرة الفرد على إسعاد نفسه، وإسعاد غيره، قال فيها:
"أسمع أميركا تغني، أسمع التراتيل، يغني الميكانيكي وهو يلوي الحديد، ويغني النجار وهو يقيس قطعة الخشب، ويغني البناء وهو يشكل الحجارة أشكالاً، ويغني صاحب المركب وهو يقودها وسط الأمواج، وتغني الأم وهي ترضع وليدها، وتغني الزوجة الجديدة وهي تبدأ حياة جديدة، وتغني الفتاة وهي تخيط الملابس، أو تغسلها، ويغني كل واحد أغنية لنفسه، لا لغيره..".
كان يرى أن المبادئ الأميركية يجب ألا يقتصر تنفيذها على الأميركيين فقط، ويجب أن تنتشر فى كل العالم، قال ذلك في قصيدته "تو فورين لاندز" (إلى بلاد أجنبية)، وفيها:
"سمعت أنكم (الأجانب) تحاولون فهم لغز الدنيا الجديدة، سمعت أنكم تريدون تعريف أميركا، سمعت أنكم تريدون فهم الديمقراطية؛ لهذا أرسل لكم قصائدي".
وقالت مارثا ناسبوم، مؤلفة كتاب "العدالة الشعرية": إن شعر ويتمان يبرهن على قدرة الشاعر على "الخيال الواضح، والحكم العاقل، والمشاركة في الفرح والحزن، وتصوير الواقع، والطموح، والتغيير..".
وقالت إلين سكاري، أستاذة في الأدب في جامعة هارفارد، ومؤلفة كتاب "أون بيوتي أند جستيس" (عن الجمال والعدل): إن وصف ويتمان للولايات المتحدة بأنها "أروع قصيدة كُتبت"، يدل على تركيزه على الحرية، والفردية، والتعددية، والتنوع.
لكن، لم يكن ويتمان مثالياً، كان عنصرياً ضد الزنوج.
حاولت سكارى الدفاع عنه (وعن أخبار بأنه كان من المثليين الجنسيين)، وقالت إنه كان "ضحية العلم الخاطئ في زمانه (تقصد ضحية تفسيرات "علمية" بأن الزنوج أقل ذكاء، وأقل نشاطاً)". وأضافت: "تخطت رؤيته المثالية نحو عدل شامل عدم تطبيقه هو نفسه للعدل الشامل".
ويتمان والرومي:
قبل أعوام قليلة، بمناسبة احتفال الأميركيين بمرور 120 عاماً على وفاة ويتمان، كتب إيبو باتيل، مسلم أميركي، ومن مستشاري الرئيس السابق باراك أوباما الدينيين، ومؤسس ومدير جمعية "انترفيث يوث" (تدعو للتسامح الديني وسط الشباب) عن التشابه بين ويتمان وجلال الدين الرومي، وقال: "قبل سنوات قليلة، أعلنت صحيفة "نيويورك تايمز" أن الرومي هو أشهر شاعر مؤثر في الولايات المتحدة..".
وأضاف: "ماذا يجذب الأميركيين نحو الرومي؟ يقول بعض الناس: إن السبب هو غرام الأميركيين بكل ما هو غريب، ومثير، خاصة مع موجة الروحانية الجديدة وسط الجيل الجديد، لكن أقول أنا: إن السبب هو التشابه بين قصائد الرومي وقصائد ويتمان."
وقال: "مثل الرومي، ركز ويتمان على الجانب الإنساني في الدين، وعلى أهمية الترابط بين مختلف الأديان والعقائد، وعلى حب التنوع والتعدد وسط شعوب العالم".
في قصيدة "أغنية إلى نفسي"، يقول ويتمان: "أسمع صوت مؤذن عربي ينطلق من قمة مسجد، وأسمع صوت واعظ مسيحي في كنيسة، وأسمع صوت حاخام يهودي يقرأ من التوراة، وأسمع صوت مدرس بوذي يدرس تلاميذه..".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.