بدأ مفهوم الحرب الاستباقية منذ بدايات القرن المنصرم، والذي تجلى عبر إعلان "مبدأ مونرو" عام 1823، والذي اعتبر فيه أميركا اللاتينية منطقة نفوذ خاصة بالولايات المتحدة ولا يجوز أن تتدخل في شؤونها أي قوة أوروبية.
فيما تبلور قبل نحو خمسين عاماً مضت، العمل بفهوم الحرب الوقائية أو الاستباقية ولا فرق جوهري بينهما، المفهومان متشابهان لوجود تداخل بين الضربتين، الأولى تعتمد على النوايا المحتملة لدى الخصم، أما الثانية فتأتي لمباغتة الخصم قبل المبادرة ببدء الحرب.
أما نحن العرب وكعادتنا، ولكون أخلاقنا تأبى شرفاً أن نبتدي من حيث انتهى الآخرون، فقد استغرقنا في سباتنا لعقود قبل أن نعترف بضرورة الكي بالحديد والنار ما تسرطن فينا، وما هو حولنا، قبل أن يستبيح الجسد بالكامل.
فعزِفنا حتى عن البحث والتقصي في حقائق تأريخية معاصرة، يمكن أن نستلهم من خلالها ما يؤهلنا لتدعيم مفهوم "الأمن الجماعي" لتفعيل مبدأ التضامن والمساعدة المتبادلة بين الدول العربية.
فكان جل ما اتخذ من تدابير هي في الواقع صورية تعكس حقيقة الخلافات والفرقة عبر تأسيس تكتلات مناطقية خليجية وأخرى إفريقية، فضلاً عن جامعة دول عربية برئاسة أمانتها المتوارثة، والتي كان وجودها مدعاة للسخرية والشفقة في ظل تصدير بيانات مستنسخة ما خلت من ثلاث عبارات وهي "نشجب ونستنكر وندين" مع وقف التنفيذ.
أضاع العرب أفضل سلاح بأيديهم، وهو النفط قبل أن يتدنى سعره حتى كاد الماء المفلتر بالأوزون يصبح أكثر قيمة منه، فلو استخدم بشكل صحيح لمكنهم من تنفيذ عمليات وقائية ضد أعدائهم بدلاً من تبني سياسة النفس الطويل والاحتواء للصغير والكبير، فالمادة "51" من ميثاق الأمم المتحدة، تبيح حق الدفاع الشرعي، في حالة وقوع هجوم مسلح أو التعرض لهذا الهجوم أو كونه وشيكاً ومؤكداً.
نعم، تم تشكيل قوات ردع عربية وإسلامية مشتركة، أعلنت خلالها العديد من الدول بيعتها وهي صادقة، فيما انضمت أخريات كرها على كره، فاضطر هذا التشكيل للقتال في عدة جبهات تسبب في تشتيت القوة والدفع نحو استنزاف القدرات بسبب تباعد محاور النزاع، فضلاً عن كون الطرف الآخر كان قد أستعد لوجستيا لبدء الصراع.
ولسنا هنا في محل أن تسوقنا عواطفنا لنرقص ونهلهل فرحاً بصحوة عربية مجيدة، فنقفز على الوقائع ونتغاضى عن الحقائق، ولربما سنُتهم بأن طرحنا ليس في محله ولا وقته وسيؤوّل على أنه تهبيط لعزم أولي بأس قواتنا الشديد، فحتى اللحظة لا نعلم مدى جدية أستمرار حملة تحجيم دور إيران ونفوذها المتنامي في المنطقة في ظل وجود رسائل توحي بإمكانية العفو والمغفرة وفتح صفحة توافق جديدة تحت بند دفع الضرر الأكبر بالضرر الأصغر، فنتسبب بصدمة نفسية جديدة لشعوبنا التي تهفو لإحياء أمجادٍ بات ذكرها أو التغني بها يُعد تحريضاً على الإرهاب.
فهل سياسات أنظمة إيران تؤتمن بحسب ما يفصح لنا عنه التأريخ، وهل سنعود لنعول على ما قيل إنه صراع غربي مع طهران سيتكفل في تحجيم تدخلاتها بشؤون المنطقة؟
أليس الأجدر بنا أن ننطلق وفق مبدأ القياس بحسب رؤى واجتهادات دول أخرى، وعلى سبيل المثال ما ذهب إليه وزير الشئون الخارجية الهندية "ياشوانت سنها" عِبر تصريح له في إبريل عام 2003م، حيث قال إن الهند يتوفر لديها حالة جيدة لتوجيه ضربة استباقية ضد باكستان، معتبراً أنه إذا كان غياب الديمقراطية وامتلاك أسلحة دمار شامل، وتصدير الإرهاب هي شروط الضربة الاستباقية، فإن باكستان تمثل الحالة الأولى بالعمل الاستباقي!
إذن من الأفضل أن نكون مثلاً بدلاً من أن نكون أمثولة، وليكن لكم في العراق قصص يا آل العرب، فلقد اختير ليكون أول ساحة نموذجية لتطبيق الضربة الاستباقية وجعله "أمثولة" للآخرين، كما أشار "ريتشارد بيرل" الذي وصِف بأمير الظلام عقب غزو العراق مباشرة، حيث كان تطبيق النضرية الأميركية ضد بغداد قد جاءت للتخلص من عقبة وجود نظام غير خاضع لسيطرة إدارة البيت الأبيض ويجلس فوق بحيرة نفطية، وهو أمر مؤرق في ظل إمكانية تطبيق واقع مفاده أن من يمسك بالنفط يسيطر على العالم.
في العراق مثل شائع وهو "بعد خراب البصرة" ويعد من الأمثال الشعبية المشهورة والتي تضرب للذي يقوم بعمل ولكن بعد فوات الأوان، واصل المثل يعود إلى زمان الدولة العباسية، حيث حصلت ثورة الزنج، والتي سيطر على إثرها "علي بن محمد" على البصرة عام (255 ـ 270هـ) وامتد نفوذه إلى رقعة واسعة، وكان شديداً مع أعدائه إلى حد التطرف، حتى بات يهدد بغداد، وهنا شعر الخليفة المعتمد "أحمد بن المتوكل" بخطر حركة الزنج فعهد المعتمد إلى أخيه الموفق "طلحة بن المتوكل" بمحاربة الزنج، فاصطدم مراراً بهم في عدة مواقع، ولكنه في إحدى السنوات وردته اخبار عن تمرد في بلاد فارس، فترك الموفق البصرة وتوجه بجيشه إلى إيران، فانتهز "علي بن محمد" الفرصة وأعاد سيطرته الكاملة على البصرة وضواحيها، وأطلق لجماعته من الزنج العنان ليستولون على ما يشاءون من أملاك ونساء الأثرياء ووجهاء المدينة حتى عم الخراب!
عندها عاد الموفق بجيشه من إيران ودارت معارك عظمى بينه وبين جماعة الزنج انتهت باندحارهم ومقتل زعيمهم "علي بن محمد" واستسلم من بقى من أتباعه، وأُسْدِلَ الستار على هذه الحركة التي قضَّت مضاجع الخلافة العباسية، وكلفتها الكثير من الجهد والأموال والأرواح ولكن الناس قالت آنذاك: نصر بعد خراب البصرة!
وما أشبه تأريخ الأمس باليوم، فضعف التقدير وقصور الرؤية وانعدام التوافق والاجماع العربي، ولدت كلها الظروف ليستخف بنا من يتربص بشعوبنا الدوائر، وهل سيأتي قادتنا بنصرٍ يقول الناس فيه "جاء بعد خراب الأمة".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.