يعتقد عدد كبير من علماء السياسة والاقتصاد الروس أن الأزمة التي تضرب الاقتصاد الروسي ليست أزمة عابرة تتوقف على عامل خارجي مخطط له من قِبل "مناوئي" النظام في روسيا، ولكنها برأي البعض الآخر من الخبراء وعلماء الاقتصاد الروس، أعمق من ذلك كونها تتكون من الطبيعة الريعية التي يقوم عليها الاقتصاد الروسي، والتي تعتمد بدرجة كبيرة على بيع النفط والغاز والصادرات المعدنية، وهو ما يعزز تبعيته للخارج.
فالأزمة الاقتصادية الروسية ناشئة في الأصل من طبيعة النظام الاقتصادي الذي أسسته الطغمة المالية السابقة أيام حكم الرئيس الروسي السابق "بوريس يلتسين"، ولم يسهم دور العقوبات الغربية وكذلك انهيار أسعار النفط -كما يقول المحللون- إلا في إظهارها والتعجيل بها.
وهنا لا يمكن الفصل بين تطورات الواقع الاقتصادي في روسيا وبين القوى المسيطرة على الاقتصاد الروسي والتي تحدد -وفقاً لمصالحها- السياسات الاقتصادية التي تعود عليها بالنفع الأكبر.
وإذا تمت مراجعة طريقة نشوء تلك القوى التي قدر لها أن تحكم روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، لتبين أنها قوى "مافيوية" من أصول بيروقراطية تعاونت مع مافيات أجنبية حتى استكملت نموها، ثم أقصت تلك المافيات بعد أن رسخت سيطرتها الاقتصادية والسياسية.
يرى بعض المعلقين أن النظام الاقتصادي الذي استعاد سيطرته على روسيا، استعادها عبر أدوات "مافيوية" وإجرامية تمقت الاقتصاد المنتج والإشكاليات المرتبطة به من بِنى تحتية ورأسمال ثابت وطبقة عاملة وأشكال نقابية، وتفضل وتحبذ الاقتصاد الريعي الذي يمكن من الربح الفاحش والسريع والمرتكز على المتاجرة الخارجية، وبوجه خاص، على تسويق النفط والغاز؛ حيث باتت روسيا على رأس قائمة الدول المنتجة والمصدرة لهذه المادة بعد المملكة العربية السعودية.
وفي هذا السياق، دلت المعطيات الروسية على أن نسبة 69 بالمائة من الأموال حصلت عليها روسيا عام 2010 جاءت من صادرات النفط والغاز والفحم، وهو ما يؤشر على مدى ارتباط الاقتصاد الروسي بتقلبات السوق العالمية في الطلب على هذه المواد، في حين شهدت الأعوام الأخيرة تراجعاً في حجم الاقتصاد الصناعي؛ حيث إن عدداً كبيراً من المصانع قد توقف عن العمل، ونظراً لتبعية هذا الاقتصاد وارتهانه للسوق العالمية التي تسيطر عليها دول كبرى عريقة، وجدت السلطة الروسية نفسها مندفعة نحو مغامرة غير محسوبة العواقب في أوكرانيا، رداً على الثورة التي أطاحت بحليف موسكو، الرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش، الذي هرب إلى روسيا، بعد ذلك مارست روسيا كل ما رأت أنه يحفظ مصالحها، خاصة فيما يتعلق بخطوط نقل الغاز باتجاه الأسواق الأوروبية.
ورغم ما يشاع عن تحسن الدخول الذي استفاد منه العاملون في القطاع الحكومي الروسي، خاصة على خلفية ارتفاع الريع النفطي خلال السنوات الأخيرة (2009 – 20012 ) من حوالي 535 دولاراً شهرياً إلى حوالي 900 دولار للفرد الواحد في الشهر (وهذا طبقاً لسعر الصرف السابق للانهيار النقدي)، فإن طبيعة الاقتصاد الريعي كما هو معروف تعود بالفائدة فقط على الطبقة المافيوية المسيطرة على الاقتصاد الروسي، وبنسبة أقل على العاملين معها.
وترجع مشاكل روسيا جزئياً للعقوبات الغربية بسبب أوكرانيا، ولكن النفط يلعب على الأرجح دوراً كبيراً في دفعها للانزلاق في حالة كساد حاد، ويحتاج الكرملين -كما يقول المحللون- لسعر 100 دولار لبرميل النفط تقريباً؛ كي تنضبط الميزانية. وهبوط السعر يعني بالضرورة دفع الضرائب وخفض الإنفاق بشكل حاد واستنزاف الاحتياطات النقدية بدرجة تثير القلق.
ويقول عدد من الخبراء: إن هذا النمط الاقتصادي لا يعتد به كنمط تشغيلي؛ حيث إن نسبة العاملين في قطاعاته ليست سوى نسبة ضئيلة من مجمل القوى العاملة، وفي حين يتم تهميش القطاعات الأخرى الأكثر تشغيلاً شأن الصناعة والزراعة، تتراجع العمالة وتتوسع نسب البطالة والتهميش وتتسع الهوة بين الأكثرية الفقيرة والأقلية الأوليغارشية، وقد كان هذا قائماً قبل استفحال الأزمة الأخيرة التي سوف تلقي بثقلها الكبير على الطبقات المتوسطة والفقيرة؛ إذ إن التقارير الروسية نفسها تشير إلى أن 60 % من الروس في مستوى خط الفقر، وأن الراتب التقاعدي في روسيا غير كافٍ لسد حاجات المتقاعدين خلال شهر، وهو في حدود 200 دولار، في حين أن متوسط راتب الفرد غير المتقاعد من الطبقة الوسطى لا يتجاوز 500 دولار وهؤلاء لا يشكلون إلا نسبة قليلة من السكان.
وفي هذا الإطار، يقول الخبراء: إن انهيار سعر صرف الروبل ثم تأرجحه يسيل له لعاب "المافيا" المالية التي سوف تجد في هذا الأمر باباً من أبواب مراكمة الأرباح السريعة، في حين يستنزف ليس فقط مدخرات الطبقة الوسطى، وإنما جل رواتب ومعاشات العمال والموظفين في ظل تقلب الأسعار الذي سينتج حتماً عن ذلك، مما سيفاقم الأوضاع ويهدد الاستقرار الاجتماعي الهش. ولم تكن العقوبات الغربية على موسكو وانهيار أسعار النفط إلا هبة الريح التي كشفت الخور الذي أصاب النمط الاقتصادي الروسي، فشجع الدول الغربية على تصعيد مواقفها حيال السلوك السياسي تجاه أوكرانيا.
يتوقع المراقبون أن تسعد الحكومات الغربية لتفاقم الوضعين الاقتصادي والنقدي في روسيا، وهي إذ تواصل تهديدها للحكومة الروسية بمزيد من العقوبات، مطالبة إياها بالتراجع عما أقدمت عليه من ضم شبه جزيرة القرم والتدخل إلى جانب الانفصاليين في أوكرانيا، تعطي انطباعاً بأنها مرتاحة إلى تداعيات تلك الأزمة.
مما لا شك فيه أنه لا يمكن بسحر ساحر تغيير نمط الاقتصاد الروسي الحالي من ريعي إلى صناعي وزراعي، وبالأخص عندما ينخره الفساد المافيوي، وهذا في حال الإصرار عليه ورضوخ الطبقة الريعية المسيطرة له سيحتاج إلى خطط خمسية وعشرية، في حين أن مجرد إعلان يؤثر على تراخي دول الغرب في تنفيذ العقوبات أو عودة أسعار النفط إلى التحسن سيكون له تأثير مباشر على سعر صرف الروبل، وعلى الروح المعنوية للحكومة الروسية، لكن الأمر مرتبط بتنازلات، خاصة في موضوع العقوبات، ولا يبدو أن النظام الروسي متجه نحو تقديم مثل هذه التنازلات.
فالأزمة المالية التي سببتها العقوبات الغربية ضد موسكو، وتفاقمت بتراجع أسعار النفط، تلقي بثقلها على روسيا، التي تشهد تضخماً متسارعاً، وخطر إفلاس الشركات الروسية، التي حصلت على قروض بالعملات الأجنبية، وأصبح نظامها المصرفي هشاً، وجمدت المشاريع الكبرى في البِنى التحتية. من جهته، اعتبر تجمع المصارف الدولية أن الركود في روسيا قد يكون (عميقاً جداً) ويتجاوز بكثير توقعات الحكومة الروسية، إذا بقيت أسعار النفط بهذا المستوى الضعيف.
وتقول حكومة ميدفيديف: إن تراجع عوائد النفط والعقوبات الغربية سيؤديان إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة قد تبلغ 8 بالمائة وقد يصل معدل التضخم إلى أكثر من 17 بالمائة.
ويرى المحللون الاقتصاديون أن مشكلة روسيا الاقتصادية الكبرى هي السياسة السيئة. بعد سنوات من النصائح، لم تنجح الحكومة الروسية في توظيف الاقتصاد الروسي لتقليل تأثيره أمام سعار أو محاربة الفساد الذي يستنزف موارد روسيا من توريد الطاقة الذي يخنق الأعمال المتوسطة والصغيرة، أو في نشر المبادرة لبناء الاقتصاد المتقدم الذي كان لروسيا أن تبنيه.
حالة من القلق تسود النخبة الاقتصادية الروسية، وسط اتهامات للقيادة السياسية بالارتباك في معالجة الأزمة، والبحث فقط عن سد الثغرات لمواجهة الركود، بينما يتجه وضع الاقتصاد إلى المزيد من التأزم.
ويقول مراقبون روس: إن الانحدار السريع لسعر صرف الروبل، وتراجع العوائد المالية التي تمثل نحو 50 بالمائة من إجمالي إيرادات ميزانية الدولة الروسية، أوقع الحكومة في معالجات مربكة.
وفي ظل هذه العوامل مجتمعة، حذرت النخبة الاقتصادية الروسية من سيناريو كارثي قد تقع فيه روسيا في الأعوام المقبلة، وقالت إنه نتاج طبيعي لسوء إدارة القيادة السياسية لملف الأزمة.
وفي تقييم لحصيلة عام من الكوابيس، نبه الخبراء المشاركون في منتدى "غايدرا" الاقتصادي في موسكو، إلى أن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة لا ترقى إلى مستوى المخاطر التي تنذر بانهيار فعلي للاقتصاد الروسي.
وقال البعض منهم: إن الحكومة الروسية لا تملك في ظل الاضطرابات الاقتصادية والتوترات الجيوسياسية، استراتيجية واضحة، وهامش مناورة لتهدئة قلق النخب الاقتصادية وطمأنة الشعب الروسي.
وأضافوا أن الاقتصاد قد يشهد انفراجاً نسبياً إذا تمكنت الحكومة الروسية من خفض المشاحنات السياسية مع الغرب وتخفيف وطأة العقوبات الاقتصادية وتحسين العلاقات الخارجية، لكنه لم يصل إلى مستوى التعافي.
ويتهم أبرز الاقتصاديين الروس الحكومةَ باتباع سياسة نقدية مربكة واستراتيجية اقتصادية غير فاعلة، ودعا غريف وزير الاقتصاد الروسي السابق، ورئيس مجلس إدارة البنك المركزي الروسي (سبيربنك)، الذي يتمتع بنفوذ كبير لدى الفريق الليبرالي في السلطة الروسية، إلى تغيير "جذري" للسياسة من أجل استعادة ثقة رجال الأعمال.
ويرى عدد من الخبراء الروس أن التصريحات الرسمية للمسؤولين الكبار في الحكومة الروسية ظلت في إطار الدعاية السياسية، ولم تأتِ بتدابير ملموسة أو إصلاحات مدروسة، وأن الحكومة تركت للوزراء مهمة استخدام الاحتياطات المتراكمة لمعالجة الأزمة واعتماد سياسات التقشف.
وقال نيكولاي بيتروف، الأستاذ في المدرسة العليا للاقتصاد في موسكو: "ليست لدى السلطة استراتيجية مضادة للأزمة"، وإن أساس المشكلة في تركيبة الحكومة، التي تمثل مجموعات ليبرالية وأخرى محافظة تنادي بإدارة موجهة للاقتصاد.
وتحدثت صحيفة "فيدوموستي" الاقتصادية عن وجود إرباك سياسي في التعامل مع الأزمة الاقتصادية، مشيرة إلى أن الحكومة اتخذت تدابير متناقضة بين دعم رسمي لبعض القطاعات ووعود بخفض النفقات.
ويرى مراقبون اقتصاديون أن الأزمة الاقتصادية الخانقة دفعت الحكومة إلى الضغط على البنك المركزي، الذي تدخل بضخ مليارات الدولارات لوقف انهيار الروبل وتسبب في تراجع احتياطات النقد الأجنبي في روسيا.
وشهدت روسيا العام الماضي "طبقاً للمصادر الروسية" هروب 140 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية. ورغم إنفاق البنك المركزي لأكثر من 90 مليار دولار للدفاع عن الروبل.
يبدو أن الخسائر قد تضاعفت اليوم، فتجار العملة والبورصة يعرفون كم تعتمد روسيا على أسعار النفط والطاقة، فالإغراق بالإيرادات أدى إلى انهيار الروبل أمام الدولار.
البنك المركزي الروسي يقف الآن بلا حول ولا قوة إزاء الانهيار المتواصل، ويستعد الروس لعام هو الأصعب على الإطلاق منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، فمن المتوقع ارتفاع معدلات التضخم، ودخول اقتصاد البلاد في ركود اقتصادي كبير؛ حيث بدأ الكثير من المواطنين الروس تبديل العملة المحلية خوفاً من الاستمرار في تراجع قيمتها، ما يعني خسارة مدخراتهم، وبحسب "المصادر الروسية" لجأ البعض من المواطنين لاستخدام الروبل في شراء البيوت والعقارات ومنتجات قد تبقى قيمتها ثابتة.
وتبعاً لتقديرات صندوق النقد الدولي لهذا العام، فإن روسيا تأتي في المرتبة 17 عالمياً كأكبر اقتصاد بإجمالي ناتج داخلي يقدر بـ1.267 تريليون دولار، في تراجع كبير عن دورته البالغة 2.2 تريليون دولار عام 2013، عندما كانت أسعار النفط نحو ضعف ما هي عليه الآن، طبقاً لأسبوعية "موسكو تايمز" الروسية، أدنى من الناتج القومي في إيطاليا، أو البرازيل، أو كندا.
وطبقاً لتقرير خاص، تواجه روسيا مشكلات خطيرة في اقتصادها وسياستها ومجتمعها، فظاهرة الشيخوخة تطغى على سكانها، ومن المتوقع أن ينخفض عددهم بنسبة تصل إلى 10% بحلول عام 2050.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.