زمرة الدم A خوف.. مذكرات سوري في مطار خارجي

اقترب موعد الطائرة.. هل يُعقل ألا يعتقلوني؟! هل تكون تلك المرأة التي تتقدم نحوي ومعها.. معها شيء؛ هل هو مسدس أم كلبشة؟ لا.. لا.. هي موظفة بيدها ختم جاءت تسألني عن وقوفي مكاني من نحو نصف ساعة، والناس تصعد الطائرة، وأنا أتنقّل في النظر بين هذه وذاك، لا أعرف عمن أبحث! والبوابة تكاد تغلق لتقلع الطائرة.

عربي بوست
تم النشر: 2017/06/01 الساعة 06:02 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/06/01 الساعة 06:02 بتوقيت غرينتش

لأننا نشأنا وكلابُ البعث تَنبُحُنا عند كل شيء وفي كل شأن لنا.
ولأننا كبرنا ونحن ننظر إلى الشرطي يصفّر لمخالفة المرور فنخالها دعوةً إلى أحد أقبية المخابرات.

ولأننا كنا نقف في طابور الاجتماع الصباحي وأمامنا مدرّب الفتوّة -وليست فتوّة؛ بل رعب- بلباسه العسكري، يلبسه لأن لابسَ البدلة مرهوب مخوف، فنردِّد كالببغاوات ما يهذي به من آيات بعثية شيطانية.

ولأننا نراجع دائرة النفوس فندخلها وعبقُ الاستخبارات النَّتِن يفوح منها، أو نذهب لتثبيت زواج أو طلاق في المحكمة، فنجد الهالة الإرهابية تحوط المحكمة والنفوس؛ بل تغلّف بإرهابها كل مرافق حياتنا.

حتى مَن يتركون له لحظة يتنفس فيها، فيفكّر في بناء عشّ يبيت فيه مع أفراخه، فيذهب إلى التسجيل على الأسمنت، فيدخل في تحقيق أمني لا اقتصادي عن الكمية التي يطلب، وربما يخرج بالأسمنت مع بطاقة شكر؛ لأنه يبني ويعمّر عليها (تهمة تهريب أسمنت للعدو) في البلد المجاور لنا بعد ربلة وجوسية!

ولأننا كنا نذهب إلى معرض الكتاب الدولي في الشام، فنشتري الكتب ونتخفى بها؛ لأن مَن يقرأ ويتنوّر له مكافأة من الدرجة الأولى؛ تقرأ وتستنير ونحن هنا! أمَا علمتَ أن التسبيحَ بحمدنا والتهليلَ يُغنيك ويَكفيك! فلتكن مكافأة مَن يقرأ كيسٌ (شوال بقلم أحمر للحنطة) تضعونه فيه، فلا تتبدَّد بَركة ما يقرأ ونخسر.

ولمزيدٍ من الفائدة، ولأنه يعشق الكتب والتنوير هاتوا كتبه معه، لا تميزوا ما اشتراه تهريباً من الأعراب الأعداء في جزيرة العرب مما سمحنا بطرحه في المعرض الدولي للكتاب، الذي نُقيمه نتباهى به أننا ندعم العلم والثقافة، فصدَّقُوا الدعوى وأحبّوا القراءة.. يا عيب الشوم! لكنها جيدة؛ فقد رمَينا الطعم، فأسرعت الأسماك نحوه، فجمَعْنا عصافير كثيرة في رمية حجر، وفوقَها بدَّدْنا أموال المندسّين في أمور نصادرها، فلا ينتفعون بها في تفخيخ السيارات، ونحفظهم وكتبَهم في الزنازين فلا يعملون على تفخيخ العقول!

ولأننا عِشْنَا ورخصةُ محل الفلافل تصدر من التموين العسكري، عفواً من الأمن العسكري، ومَن يتقدم لوظيفة عليه إثبات ولائه لسيد الوطن الذي اغتصب الوطن والمواطنين، ويثبت براءته من الأفكار الهدّامة، إسلاميةً كانت أو يساريةً، دون أن نختلف في شهادته؛ فالولاء للوطن ولمتغصِب الوطن أهم من شهادات ورقية لا تنفع، وإن لزم الأمر فهي إنما تصدر عن إرادتنا السامية فنتفضل بها على المفلسين، عفواً على المخلصين!

ولأننا عِشْنا والرجلُ يُوقع بأخيه أو أبيه أو ذَوِيه قربانَ نفاق يصعد فوق جثثهم أو عذاباتهم؛ ليترقى عند سيد الوطن وكلابه! بل والزوجة تهّدد زوجَها -إن تزوّج عليها- بالأمن العسكري والسياسي وأمن الدولة! فعشنا والحيطان لها آذان، والهاتف يتكلم ويتسمّع وإن كان لا يرى وبالكاد يسمع.

لأننا عِشنا كذلك، فلا غرابة أن نقف في طابور ختم الجواز في دولة محترمة، فيقلّب موظف الأمن العام في الجواز، فنبدأ التلفّت: جاءوا ليمسكوا بي؟ فإنما يقلّب ليكسب وقتاً ريثما تصل (الستيشن البيضاء) وفيها الشبيحة.. لا لا.. فالرجل يضحك! نعم، يضحك حتى لا ترتبك أكثر وتطمئن فيسهل القبض عليك! لا.. لا، الرجل ختم الجواز وسلّمَنيه! نعم، حتى تمشي ويقبضوا عليك بعد الختم دون إحداث (شوشرة).. ممكن!

تمشي وتتلفت: أيٌّ من هؤلاء المدنيين في لباسهم هم المكلّفون القبض عليّ؟ لعله ذاك الملتحي؛ شكله لا يريحني.. لا.. فقد ذهب ودخل بوابة طائرة أخرى.

نعم نعم، هو ذاك الشاب الذي يبدو شكله غريباً، طلبوا منه تغيير شكله فلا يدعو للريبة، لا .. لا؛ إنه ينتظر حبيبته، جاءته فأخذها في حضنه، وبقيتَ تنظر إليهما.. عيب.. أستغفر الله.

يا ربّي! كيف غاب عني أنهم قد يرسلون ضابطاً لاعتقالي لكوني أستاذاً جامعياً! فهو ذاك الرجل الشايب الطويل صاحب البدلة الكحلية وله رتب عسكرية على كتفيه، ومعه مرافقوه يلبسون مثله؛ يا ربّ اصرفه عنّي، وأغمضت عيوني ليسهل الخَطب، فمرّت لحظات كأنها سنوات، فتحت عيوني، فوجدتهم قد تجاوزوني، إنهم يفسحون له؛ إنه الطيّار ومعه مرافقه وطاقم المضيفات! الله المستعان.
فأيّهم؟ أيّهم؟ ولخوفي وارتباكي كدت أناديهم: هأنذا تعالوا فاعتقلوني.

اقترب موعد الطائرة.. هل يُعقل ألا يعتقلوني؟! هل تكون تلك المرأة التي تتقدم نحوي ومعها.. معها شيء؛ هل هو مسدس أم كلبشة؟ لا.. لا.. هي موظفة بيدها ختم جاءت تسألني عن وقوفي مكاني من نحو نصف ساعة، والناس تصعد الطائرة، وأنا أتنقّل في النظر بين هذه وذاك، لا أعرف عمن أبحث! والبوابة تكاد تغلق لتقلع الطائرة.

نعم نعم؛ أنا في هذه الطائرة إلى أوسلو وهذا جوازي وتذكرتي.. عذراً عذراً، سوف أصعد.. سوف أصعد؛ فصاحبي الذي أنتظره قد تأخر!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد