إنها مأساتنا وقصتنا منذ ما يقارب عقد من الزمان أو أكثر.
نستقبل العِيد ونحن ندعو الله تعالى بأن نعود إلى ديارنا آمنين مطمئنين مرتاحي البال، ونجتمع من جديد في منازلنا مع ما تبقى من أحبائنا، ونروي للأطفال ذكرياتنا وماضينا وملامح أجدادنا المنقوشة فوق الجدران وشوارع الحي مع عبق ياسمين الشام في الحدائق تصاحبها أنفاس المأكولات الشعبية، فنجد كل التراث والأصالة تختصر في قصصهم وأحلامهم وأمنياتهم لنا بأن يعود العيد بالخير والصحة والعافية، ويجعل الله أيامنا أفراحاً ومسرات.
طيبون هم أجدادنا، وورثنا عنهم طيبتهم وبساطة حياتهم وأحلامهم.
لكن تمكنت منا الحداثة فغادرنا إلى العالم الخارجي الذي لا يشبهنا وغيّرنا بعضاً مما عِشنا عليه، ولكن رغماً عنا .
ما كنا نتمنى أن نُجبر على الخجل من عاداتنا وتقاليدنا وما ورثناه من قيم ومبادئ عنهم، فقط لنحترم ثقافة البلاد التي احتضنتنا وشرعت أمامنا سواحلها ومطاراتها في وقت طردنا وأبعدنا وقيد تحركاتنا الكثير ممن يشبهوننا!
فكان البحر هو خيارنا الوحيد، والعدو كان القتل والموت على يده أكيداً، غادرنا بلادنا مُجبرين مكسورة قلوبنا والحرب تأكل كل ذكرياتنا وأحلام مستقبلنا.
ديارنا الآمنة ما عادت تَصلُح للحياة، فشبح الموت خطف مَن خطف في طريقه، والحرب كان وقودها نحن.
نحن البسطاء الذين نطمح إلى العيش الكريم والصلاة والصوم والتوكل على الله ليرزقنا ويبارك لنا في أوقات عملنا كل صباح، ومن ثم لقاء الأحبة والجيران في المسجد عند المساء..
هذهِ كانت أجمل أيامنا ولم يسمحوا لنا أن نحتفظ بتراثنا وحضارتنا ومجدنا، فأقامت الحرب بهمجية ووحشية لتسلب منا كل ذلك دون أن تشبع أو تكتفي.
يأتي عيد ثم عيد ثم عيد، ولا شيء يتغير، نراقب الخراب والدمار والقتل من بعيد ونجدد الأمل.
إنه ابتلاء من الله تعالى، فالصبر من صفات المؤمنين، ونحن إن شاء الله من الصابرين.
يمر الحُب فنبتسم في وجهه، فالحب الأكبر والأبقى والأصدق والأهم هو حب الوطن، ونلاقي الغريب ونتشبث بهِ فتخذلنا مشاعرنا ومشاعره في كل مرة، ولا يعد هنالك قيمة للحب إن لم يكن المحبوب أمناً وأماناً ووطناً.
ثم نسمع نبأ حرب أخرى قائمة في وطنٍ آخر وأبرياء آخرين سوف يودعون أحلامهم وحياتهم البسيطة لحياة مجهولة.
في العيد لا بد أن يأخذنا الحنين في أيامه إلى الوطن ورائحة صباحه وساعة السحر فيه.
يأخذنا الحنين إلى الماضي، إلى قهوة الصباح ونسمات الشتاء التي تلوح غيومه في أفق السماء محملة بالغيث والرزق الكثير لتزهر بهِ الأرض بخيراتها.
يأخذنا الحنين لمن نشتاق لملامحهم وأصواتهم وضحكاتهم، لأهلنا الذين لم يتبقّ لنا وإياهم صورة واحدة للذكرى نزين بها هذهِ الغربة التي تحاول أن تسلبنا إرث ذكرياتنا الثمين.
لهذهِ الأسباب وغيرها الكثير توقفت منذ ذلك الحين طفولتي.. وأخشى أن تولد طفلتي.
أخشى أن تولد طفلتي وتورث عني بؤس العيد والحياة وغُربتي.
أخشى أن تولد طفلتي والحرب ما زالت قائمة وجمر الموت ما زال مُشتعلاً والضحايا هم الأبرياء ووقود الحرب طفولتهم وضياعهم وجهلهم.
لا وطن لهم سوى الخِيام لا يعرفون عن الانتماء للوطن سوى المساعدات والإغاثة والإجلاء.
أخشى أن تولد طفلتي ولا أستطيع أن أخبرها بأن لنا مدينة، وأن لنا وطناً ولنا ذكريات جميلة، وكان عندنا عيد، وكنا نذهب للصلاة كالآخرين ونلقي السلام ونفرح باللبس الجديد وكل شيء كان طبيعياً وسعيداً.
لكنها الحرب.. قدرنا أن نعيشها ونحارب في سبيل بقائنا للعودة ذات صبيحة عيد إلى أرض الأمجاد.. أرضنا.
أخشى أن تولد طفلتي والحرب قائمة في حلب، في الموصل، في الحدود، وعلى أطراف مدينتي.
الحب في وقتٍ كهذا عُذري حتى يُكتب لهُ وطن وحياة وروح جديدة ترزقنا بأطفال نروي لهُم قصصاً وذكريات سعيدة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.