منذ فترة ليست بالقليلة لم أُجرب طعم العيد في القرى، يَحِينُ موعدها -دائماً- وأنا في ضوضاء وضجيج المدن، أقضي إجازة العيد مرغماً وسط المفرقعات والألعاب النارية للأطفال، ومجاملات عجائز أهل الحي، الذين يلقون التحيّة الفاترة على الجيران والمارّة بقلوب يملأها الخجل.
وسط هذا الروتين المُمِل، تلقيتُ هذا العيد دعوةً كريمةً من صديقي وزير الدولة للمالية بحكومة بونتلاند الصومالية محمود فارح بيلداجي بزيارة مدينة "أوفيْن" التاريخية بشرق البلاد، مسقط رأسه ومرتكز قوته، على الفور ودون تردُّدٍ قَبِلتُ الدعوة، فأنا مغرم بطبعي حدّ الهيام السفر والترحال، واستكشاف الجديد، ومعرفة ولو ببيتٍ واحدٍ من الشعر، أو حادثةٍ تاريخيةٍ بسيطة يتناقلها البسطاء شفهياً، تنسيني عناء السفر ومشقته، هناك مثل شعبي صومالي متداول ومعناه: من لم يسافر لا أعين له، ويقصدون بها لا خبرة ولا دراية لمن لم يسافر، وقديماً قال الإمام الشافعي:
وسافر ففي الأسفار خمس فوائد ** تفريج هم، واكتساب معيشة، وعلم، وآداب، وصحبة ماجد
لبَّيتُ الدعوة فوراً؛ لأنها ضمن مدن لم يسعفني الحظ بزيارتها هي ومنطقة "جاردفوي" التاريخية العريقة بشرق البلاد، والمذكورة بالتفاصيل برحلات الفراعنة القُدامى، الذين زاروا المنطقة لجلب السّمن والعسل والبخور، وإن كان لي في العمر بقية سأدوّن عن جاردفوي وعجائبها الأثرية وشجرة اللّبان والبخور.
عيد الأضحى هذا العام يُذكرني بعيدٍ مماثل -قبل عقدٍ من الزمان- قضيتُه في قريةٍ صغيرة قُرب المناقل السودانية وبصحبة صديقي الإعلامي السوداني أسامة حسب الرسول، ولأول مرة في حياتي أركب الحمار للوصول إلى منزل صديقي أسامة، جربتُ حياة البداوة بكل تفاصيلها وتعقيداتها، مزارع القطن كانت تحيط بالقرية كإحاطة السوار بالمعصم، وطيبة أهلها -ما زالت- منقوشة في ذاكرتي، تسابقوا لإكرامي كوني الضيف القادم من الصومال بلاد مليوت حافظ لكتاب الله، سألوني عن المغنية حليمة الصومالية، أخبرتهم بأنها رحلت عن دنيانا الفانية، رفعوا أكفّهم للترحم، إنها الأخلاق يا سادة تتجسّد في الشخصية السودانية، هم مجتمع يحظى الفنّان فيهم بمكانة مرموقة عكس المجتمع الصومالي الذي ينظر إلى الفنان برؤية سلفية تبغض محبي العُودِ بعد انتشار موجة التيار الصحوي المؤدلج.
الفرق بين القرية السودانية وبين "أوفيْن" الصومالية هو الحياة العصرية التي طغت على المشهد هنا، وطبيعة البنيان الذي يبدو أنه حديث يشبه إلى حد قريب بقية المدن الصومالية، أضف إلى اختلاف في الأكلات، في السودان هناك أكلات شعبية خاصة للأعياد منها: "أم فتفت"، وهي عبارة عن أجزاء من أمعاء الحيوان مع الليمون والفلفل الحار، ومشروب الحلو المر والشربوط، والأخير عبارة عن مشروب بلح تُخمر قليلاً، وهو مشروب شعبي، وفي محل جدلٍ كبير عند علماء الدين السودانيين.. لكنني شربتُ منه كؤوساً متتاليات -غفر الله لنا- إن كان شربه ذنباً.
لنعُد إلى موضوعنا الرئيسي، وهو زيارتي إلى "أوفيْن" في طريقي إليها عرجنا على مزارع التّمور والفواكه، إحداها مملوكة للوزير الذي يرافقني في السفر، بونتلاند ليست أرضاً قاحلة، أو جرداء كما يعتقدها البعض، سكانها لم يستثمروا الأرض ولم يكلفوا أنفسهم عناء الحرث، طالعتنا المواقع الإلكترونية الصومالية أيام المجاعة الأخيرة كراتين من الخضراوات تُنقل جواً نحو مناطق جنوب الصومال.
في السابق كانت جنوب الصومال هي مَن تمد منطقة بونتلاند (شمال شرق الصومال) بالخضراوات والفواكه الضرورية، المعادلة تغيّرت حالياً، قوى بشرية من قومية الأورومو نزحت باتجاه شرق الصومال، وأكسبت أهالينا مهنة الزراعة، الأرض صالحة للزراعة والتربة خصبة، ينقصنا فقط الخبرة، واعتماد ذاتنا لاستزراع الأرض واستخراج ما في باطنها من خضراوات وفواكه لذيذة، إنها مسألة ثقافة فقط، هو ما يمنع أهالي بونتلاند من الزراعة، فطبيعة الرُّحل تمنع المكوث وحفر الأرض، يرونها مضيعة للوقت، بينما الأصل هي الزراعة، وكل الإمكانيات متاحة أمامهم من ماء وبذور وغيرها.
رحلتي إلى "أوفيْن" سياحية في المقام الأول، وحكومتنا -التي أنا عضو في مجلس وزرائها- تُخطّط إلى تبنّي استراتيجية قومية للنهوض بهذا القطاع، ومن هنا أشيد بجهود الناشط الاجتماعي محمد يوسف تجي محافظ إقليم "مدج" بوسط الصومال سابقاً، ومساعيه المثمرة في إبراز المواقع الأثرية والسياحية للمنطقة.
تزخر بونتلاند بقلاع وحصون شُيدت أيام ثورة الدراويش ضدّ الاستعمار البريطاني والإيطالي، ومواقع أثرية كذلك، هل سمعت بسناج أرض الأضرحة ومقابر الأجداد، وأيل وتليح ولاسقوري بلاد الحصون والقلاع، وعلولة وبارجال؛ حيث يلتقي هناك المحيط الهندي بالبحر الأحمر؟!
تعالَ أيها السائح العربي، واكتشف بنفسك كيف دافعنا عن عقيدتنا وأرضنا بقلاع وحصون مبنية بالطوب واللبن أمام الغازي الأجنبي؟!
أما "أوفيْن" فتشتهر بشلالاتها ومنابع مياهها الصافية، الزائر لتلك الشلالات يُخيّل إليه وكأنه في شلالات آنجل بفنزويلا، أو فيكتوريا الإفريقية، قرير الماء وانسيابه يأخذانك إلى عالم ثانٍ خالٍ من ضجيج المدن، ألا توافق معي أيها القارئ الحصيف بأن العيد خارج المدن أفضل!
أجمل ما في العيد هو التظاهرة الشعبية، وتشبيك علاقاتك مع أكبر شريحة ممكنة من الناس، انتهزنا هذا العيد لبعث رسائل سياسية، وتوعية المجتمع، وتحقيق رسالة الحكومة المتمثلة في تلاحم الهرم مع القاعدة، عيدكم سعيد، وعساكم من عوّاده.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.