رحلَ صدّام حسين ورحل معه نظامه، واقتلع قانون "اجتثاث البعث" الصادر عن سلطة الائتلاف المؤقتة برئاسة الحاكم الأميركي آنذاك (بول بريمر) بتاريخ 16 أبريل/نيسان 2003 هيكل حزب البعث، وأزال كل رموزه من مواقع السلطة، بالإضافة إلى حل الجيش وطرد آلاف المدرسين والموظفين من وظائفهم، وحرمان كل من يُعتقد أنه كان عضواً في حزب البعث من تولّي الوظائف الحكومية.
لم يبقَ من ذلك النظام الذي امتدّت فترة حكمه لعقود من الزمن غير آثار بعض سياساته وقراراته التي جلبت الويلات للبلد، ومن هذه الآثار "غزو الكويت" الذي بسببه فُرضَ على العراق حصار وعقوبات اقتصادية خانقة، عانى العراقيون الأمرَّين منها، فقد حرمتهم من الغذاء والدواء، فضلاً عن كل وسائل التقدم والتكنولوجيا التي وصل إليها العالم في حقبة التسعينات من القرن الماضي، مما أدى إلى وفاة مليون ونصف المليون طفل نتيجة الجوع ونقص الدواء الحاد وافتقادهم إلى أبسط وسائل الحياة.
المؤسف حقّاً هو أن كثيرين من إخواننا في الخليج ينظرون للشعب العراقي حتى اليوم على أنه هو الفاعل، رغم أنه دفع ولا يزال يدفع ثمن هذا الخطأ الكارثي، الذي لم يكن له أي دورٍ في اتخاذ قراره، ولم يرضَ يوماً به، ولكن ما حيلته، فالجميع يعلم مدى سطوة النظام آنذاك وحكمه للبلد بالحديد والنار، وأنّ أي اعتراضٍ يسوق صاحبه إلى حبل المشنقة!
كان من المفترض أن تزول هذه النظرة منذ اليوم الأول لإزاحة نظام صدام حسين، كونه هو المسؤول الأول والأخير عن غزو الجارة الكويت، لكنها وللأسف ظلّت ملازمة للكثيرين، والنتيجة كانت أن ابتعد العراق كثيراً عن محيطه العربي، ودُفِعَ دفعاً لأن يكون أكثر قُرباً من إيران، فالفراغ الذي تركه العرب بعد الاحتلال الأميركي له عام 2003 كان كبيراً، وأحسنت إيران استغلاله، حتى تحوّل البلد من عدو لها، إلى قاعدة تستخدمها لتهديد دول الخليج عبر الميليشيات المسلّحة التي شُكِّلَت وسُلِّحت ودُرِّبت وموِّلت من قبل حرسها الثوري.
نعم.. كان غزو الكويت حدثاً مؤلماً وليس سهلاً على الإطلاق بالنسبة لإخواننا الكويتيين، والخليجيين عموماً، لكن ليس صحيحاً أبداً أن يظلّ حدثاً يُلازم الأجيال جيلاً بعد جيل، ويزرع فيهم حقداً وعداءً متبادلاً، فلا من مصلحة الخليج أن يبقى العراق بعيداً عن حضنه العربي، ولا من مصلحة العراق أن يبقى بعيداً عن أشقائه، وتجارب دول أخرى، تدلّ على أن تجاوز عقدة الغزو ليس صعباً على الإطلاق.
فهذه دول أوروبا، انخرط فيها الكل في محاربة الكل، على مدى عقود طويلة من الزمن، وارتُكبت فظائع متبادلة، من قتل جماعي إلى قطع الرؤوس وحرق الأحياء وإغراق البشر في الماء، واغتصاب النساء، وكل ما لم يخطر ببال أحد من صنوف الإجرام، لكن في النهاية وصل الجميع إلى قناعة بعدم جدوى هذا الطريق، فتم الاتفاق عبر قنوات غاية في التعقيد على تصالح الطرفين.
ولا ننسَ أيضاً معاهدة "الإليزيه" التي أُبرمت بين شارل ديغول وكونراد أدناور في 22 يناير/كانون الثاني 1963، وبموجبها تمت المصالحة التاريخية بين العدوّتين التقليديتين ألمانيا وفرنسا، وتجاوزتا بموجبها حروباً طاحنة عبر العصور، فبالإضافة إلى أنها وضعت الحجر الأساس لصداقة عميقة تطورّت وازدهرت على مدى العقود الماضية، فإنها مهّدت الطريق لأوروبا موحدة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.