يقول مَن رمته صروف الدهر على شطوطٍ عدة من بحر دنياه، تُرى أمن تراكم أكوام الأماني سنبلة فسنبلة على بيدر الحياة، ومن ثَم تقهقرها المتواصل قشةً وراء قشة نبتدئ القول؟ أم من نهوض الرؤى البيضاء ندفةً فوق ندفة، ومن ثَم تلاشيها دمعةً إثر دمعة على مسرح الخطيئة نستهل نصنا الموجع بالأحلام؟
فهل من طرف الذات يُفضل الخوض في معمعة الرؤى، وبالتالي إماطة اللثام عن الأنا الحالمة؟ أم من خلال مانشيتات وتصاريح الأقطاب ندخل رحاب المدن الفاضلة؟ وأنىَّ لنا الإلمام بأماني مَن كانوا من سكان عبقر؟ حيث تطلعاتهم الصاعدة إلى اللامتناهي، فيما يتبدى قصورنا حتى عن جرد آمالنا المجهضة في حولٍ واحد، ثم حتى الدخول في معترك الذات الحالمة ألا يتطلب أمرها جرأة وبسالة؟
بما أن الحديث عن الأحلام المستقبلية للشخص هو كشفٌ لأوراقه الاستراتيجية، وبالتالي هو فضحٌ للرغبات المبطنة والمشاريع التخيلية المكتومة، الأماني السرية التي قلما يبوح بها المرء حتى لأقرب الناس إليه، كما الحال عند نشر وتعرية الرؤى المحالة إلى التقاعد لانعدام مقومات بقائها وطول مكوثها اللامجدي في تلافيف الذاكرة، واستيطانها الطويل لمساحاتٍ ملّتها من فرط الانتظار، ثم ألا يكون الحديث السردي بمرارة عن هذه الأحلام المندحرة وتلك هو إقرارٌ بسيادة الواقع على العالم المرغوب؟
طالما أن أياً منها لم تجد سبيلها للتحقق بعد، وكيف للمرء التصريح عن شيفراته الخاصة فيما تسريب بعضٍ منها قد يقود صاحبها إلى مجازات المقصلة؟ هذا إن تجرأ وجازف في بوحها جهاراً، فكيف أُكشف النقاب عن مخبوءاتي يقول أحدهم، وهي كل ما أملك من الأسرار والخبايا، ومن أين لي الشجاعة فأطلق سراح مكنوناتي على الملأ؟ واضعاً خرائطي السرية في متناول القراء، قائلاً: كيف أخلع في الكوانين فيما نسمة الصيف تحيلني إلى السبات، هو ليس التزهد بالأحلام بقدر ما هو تقتير في البوح، لا هو ليس تقشفاً، بقدر ما هو ارتباك واضح أمام كشف المستور، مؤكداً في الوقت ذاته أن لا سقف يحد مخيلته وانطلاقها في الكون المفترض، لكن الخناق الواقعي قد يُقلص من حجم الأحلام العظيمة إلى مساحة كفة اليد، مع أن الواقع نفسه قد يحض على الطيران ويحرض جمرات الخيال على الاشتعال، صعوداً إلى أقاصي الكون.
إذن فالواقع المقيت والظروف القاهرة قد تشذب الرؤى وتقربها إلى ما هو يومي وبسيط، كحلم من تصحرت حياته وبارت أرضه فيردد: "أنام وأحلم لأصحو في غدي، يغطي المزن سماء بلدي" أو حلم الراعي في توفير الكلأ لقطيعه المقدم على الانقراض، حلم بذرةٍ في أن تجد لها متنفساً للعيش في ثقب صخرة، حلم المحُاصر بين أنياب الرأسماليين في ألا يطال جشعهم مضارب كرامته، وربما رفع سقف الأماني وشارك الملايين من أبناء الوطن حلم التغيير نحو الديمقراطية وسيادة القانون والتخلص من مقام اللحن الواحد والفرقة الواحدة والتنظيم الواحد وما نتج عن الواحد عقوداً من العسف والاستبداد والفساد، إذاً هو ليس فقراً في مناخ الأحلام، لكنها الظروف المطوَقة بأسباب الارتكاس،
الظرف المُحجب رحابة السماء عن المُحاق بمكبلات المُعاش؛ لذا يشكو أحدهم قائلاً بأن كلاليب الواقع قد تجذبنا لأسفلٍ إلى حد الالتصاق بقعر الملعونة، عندها تتضاءل أحجام بنات الخيال وتستسلم طواعيةً للإملاءات الأرضية المرة، فيبدو النفور والتذمر جلياً آنذاك من كل ما يحيط بالمرء، فيقتصر التفكير حينها بالآني لا أكثر ولا أقل، وذلك إلى أن يزول ذلك الشرط القاسي الذي عبّر عنه ماياكوفسكي بقوله: "ليس الموت في هذه الحياة بالأمر الصعب، فالأمر الأصعب في اعتقادي هو بناء الحياة" نعم، فالخوف من الآتي والعجز عن إتمام بناء العمارة الوجودية قد يقود الشخص إلى مهاوي القنوط والاستسلام، فلا حُليمٌ عندها ولا أحلام، فتتضاءل الأماني عندها وتركن في أسفل دركٍ من قبو الحياة،
ولن تتجاوز تطلعاته ما كان يحلم به محمد شكري في ماراثونه اليومي مع الخبز الحافي، مقراً آنذاك بهزيمته الواقعية أمام شساعة دنيا الأحلام وضآلته هو، متذكراً إقرار محمود درويش واعترافه "بأنه تعب من طول الحلم الذي يعده إلى أوله والى آخره دون أن يلتقي في أي صباح، صانعاً أحلامه من كفاف يومه تجنباً للخيبة المنتظرة"، ناسياً وقتذاك ترنيمته المفضلة أيام الفتوة والشباب "أحلامي لا حدود لها" الجملة المقتبسة من مدونات غيفارا؛ لذا فقد انحسرت الحدود به رويداً رويداً ليدور في فلك أحلامٍ جد متواضعة، ومع ذلك هي صعبة المنال، مثل حُلم مُعدمٍ بأن يتخلص من سيف العوز المسلط على رقبته منذ وعى ذاته، حُلم ذكرٍ بأن يفوز بدفء أنثى في صقيع عمره، حلم مواطنٍ بأن لا يتجرد يوماً من شروط مواطنيته، حلم عاملٍ بأن يتناول فنجان قهوته يوماً مع صوت فيروز على الشرفة ولو لمرةٍ واحدة في الشهر.
ولكن كيف يحقق مراده وسياط الحاجة تلسعه؟ وقراصنة المال تذكره بغياهب العوز الأبدي، إذن فساعات الحشر الدنيوية، والمرور يومياً على مطهر "دانتي" قد يُصحران من بيئة المنامات، فتجز الأحلام وتنزوي؛ لتغدو باهتة في صورها، فقيرة في تطلعاتها، هشة في تخيلاتها، مقارنةً بأحلام مَن تجاوزوا العيش في طقوس الفاقة المرعبة؛ لذا فكثيراً ما يجدف المنتمي لدنيا الكتابة مردداً قول الماغوط: "أنا أحب الله وهو لا يحبني، وإلا لما خلقني كاتباً في هذه المرحلة".
ومع أن الكثير من الحالمين اختاروا الصحافة دراسةً علّهُم يُحققون بعضاً من أحلامهم التغييرية من خلال القول والكتابة، إلا أن القرائن تشير إلى أن الكثير أيضاً ربما سيتجاوزها إلى حِرفٍ مغايرة لعلهم يكسبون ثمن أقواتهم وهم بكامل سجاياهم، عوضاً عن التزلف والتملق والمحاباة وهو القاموس المطلوب إتقانه للعمل في الصحافة المحلية، أو كي يعبر واحدهم عن رأيه وقتما يشاء، وطبعاً من غير أن يُساق إلى الأقبية التي قد تُجرده من بعض ملامح إنسانيته، هذا إذا ما بقوا هكذا ينتظرون الانفراج على صفحات القلق المزمن، ومن جانبٍ آخر نقول: لعل ما أورده المترجم سيد جاد على لسان القاص الأميركي أرسكين كولدويل يتناسب ومقام الكثيرين ممن دخلوا عالم الصحافة بوجهٍ خاص وانجرفوا إلى دنيا الكتابة بوجهٍ عام في قوله: "بأنه كان يجد في ذهنه آلاف الموضوعات الصالحة للكتابة، ولكن مشكلته كانت في إيجاد الوقت الكافي لكتابة كل ما يريد أن يكتبه"،
وبدورنا نزيد على كولدويل بأن يجد له مكاناً يسمح له بعرض أفكاره بما أن أبواب الصحف والمجلات مواربة ولا تسمح إلا بمرور أفكار وأقلام القائمين عليها مع رفقائهم الحصريين، ولا مجال لدخيلٍ في أن يقتحم الدوائر التي تتقاسم الغنائم فيما بينهم، وهنا تتقدم إحدى الأنوات للتعبير عما يخالجها طالما كان الحلم مشروعاً وغير منتهك لأحلام الآخرين، وهو أن تتخلص وسائل الإعلام يوماً من المحسوبية والاحتكار والمحاصصة، وأن تصعد هيئات التحرير إلى المنصة العدلية "التقييمية" وهم منزهون من الأهواء والمزاجية، فيحكموا على النصوص والإبداعات المماثلة من خلال ما تحمل من القيم الفنية أو المفاهيم الجمالية أو الأفكار والمواضيع، لا من خلال المصالح والميول والاتجاهات.
فيما الشطر الآخر من حُلمٍ ظل يلازم أحد المبتلين بداء التدوين لسنوات، وهو أن يحقق يوماً حُلم التفرغ للكتابة، ولكن بشرط أن لا يبقى مُطارداً من قِبل دولاب الوقت المسرع في عدوه وعربة الفقر المدقع المتمهلة أبداً في تقدمها، تلك إذن كانت حدود أحلامه الشخصية، فهل تراه متجاوزاً المسموح به؟ أم أنه لا يزال حتى اللحظة متقشفاً في ترسيم حدود أحلامه وأحلامكم؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.