ما بعد الدولة حين شذّ الأصم وأبدع رولز

لافت بشكل كبير جداً ذلك التقاطع بين ما رآه الأصم من قبل وما جاء به رولز، حول مفهوم المجتمع المنظم وفق أسس وقيم أخلاقية تتناسب مع الطبيعة الإنسانية التي يفترض أن البشر ينتمون إليها فطرياً وتكوينياً، الأمر الذي بات حقيقة واقع في نماذج بعض الدول من العالم المتقدم (كالنرويج والسويد).

عربي بوست
تم النشر: 2017/07/06 الساعة 03:24 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/07/06 الساعة 03:24 بتوقيت غرينتش

"الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع وإن شذ عنهم الأصم" [1].

تعد هذه العبارة التعريف الأهم لدى أهل السنة والجماعة عن الإمامة، أو الخلافة (الدولة بالمفهوم المعاصر)، وجاء هذا التعريف في كتاب الأحكام السلطانية للإمام الماوردي، الذي يعد عُمدة مراجع السياسة العامة في الإسلام.

وسنناقش في هذا المقال العبارة الأخيرة اللافتة من التعريف "وإن شذ عنهم الأصم"؛ حيث يقول جون ستيوارت ميل: "الخطر الرئيسي في العصر الحالي هو أن قلة هم من يجرؤون على أن يكونوا مختلفين" [2]، وهذا ما ينطبق تماماً على ذاك (الأصم) الذي قَبِلَ بتحدي الاختلاف حين شذ عن رأي الجماعة، فكان ذلك الشذوذ عن الإجماع سبباً في تخليده.

و(الأصم) هو عبد الرحمن الأصم الملقب بأبي بكر (816 – 892م)، والذي يقول عنه ابن تيمية: "وعبد الرحمن الأصم – وإن كان معتزليّاً – فإنه من فضلاء الناس وعلمائهم، وله تفسير، وهو من أذكياء الناس وأحدُّهم ذهناً، وإذا ضلّ في مسألة لم يلزم أن يضل في الأمور الظاهرة "[3].

وقد شذ الأصم عن الجماعة في موقفه من الإمامة التي قال الجميع بوجوبها شرعاً ووجوب عقدها للإمام؛ حيث ذهب الأصم إلى رأي مخالف يقول فيه: "نصب الإمام عند ظهور الفتن واجب، وأما عند الأمن والعدل فلا"، ويعلل ذلك بقوله: "لو أنصف الناس بعضهم بعضاً وزال التظالم وما يوجب إقامة الحد، لاستغنى الناس عن إمام" [4].

وهذا الكلام على مثاليته في رأي البعض، إلا أنه بمقياس علوم الحاضر في فني السياسة والفلسفة، هو رأي يحمل من العمق ما لم يحمله كلام قبله قط.

وتقوم أهمية هذا الرأي على أنه لو تم بناء النظرية السياسية في الإسلام بالاستناد إلى هذه القاعدة التي قال بها الأصم عوضاً عن القطع بوجوب الإمامة، كما هو الحال حقيقة، لوفر ذلك على الأمة الكثير من دماء أبنائها، كما قال الشهرستاني: " وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة؛ إذ ما سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثلما سل على الإمامة في كل زمان" [5]، ولغير ذلك كلياً بلا شك المفاهيم الأساسية للفكر السياسي في الإسلام برمته، متخطياً فكرة ضرورة وجود الدولة (الخلافة) كقاعدة أساس في حياة المجتمع المسلم، وليس كدور مكمل وحاجة تنظيمية ثانوية لا يستند إليها بناء مؤسسات المجتمع، وهو ما تناقشه اليوم أطروحات (عالم ما بعد الدولة).

إن هذا الكلام الدقيق حول مكان الدولة من المجتمع يجعل من المجتمع العادل المحور الذي تقوم عليه الحياة الاجتماعية الإنسانية، وليست الدولة كما نعيشها اليوم.

فالدولة بالاستناد إلى هذا الرأي كانت ستكون أمراً ثانوياً يلزم للمجتمع بالقدر الذي يصلح النظام العام وفق أحوال ومصالح الناس في الزمان والمكان، دون التغلغل السافر في كافة مفاصل الحياة الجمعية والفردية على السواء، الأمر الذي يعيد التوازن للبنية الاجتماعية الإنسانية، وبخاصة في بُعدها القيمي والأخلاقي، والتي تجعل من المجتمع المنظم والفرد الحر المسؤول الأساس الذي يقوم عليه العقد الاجتماعي الإنساني، وهذه هي الحقيقة التي جاء بها الإسلام من خلال تأكيده على المبادئ والقيم والمقاصد دون التطرق للأسس التنظيمية والإجرائية لبنية الحكم، وهو ما أكده كذلك النموذج النبوي من خلال (وثيقة المدينة) التي كانت العهد الذي أقيم عليه مجتمع المدينة بعد الهجرة.

إن هذا الكلام الذي جعل من الأصم شاذ الرأي متروك العلم بالنسبة لغالبية علماء المسلمين، هو ذاته جعل من الفيلسوف الأميركي جون رولز (John Rawls ‏ 1921 – 2002) صاحب نظرية في العدالة تعرف باسم "العدالة بكونها إنصافاً – Justice as Fairness "[6]. إذ يقول رولز في نظريته تلك جوهر الكلام ذاته الذي قال به الأصم، حول أن العدالة هي القيمة المعيارية التي يجب أن يتم تنظيم المجتمع بناء عليها، وتحديد شكله ومؤسساته، ومجرد غيابها لظرف ما لا يستدعي هدم بناء المجتمع برمته، والتأسيس على الوضع الطارئ، بل يجب المحاولة لتعديل البناء المجتمعي والمؤسسي له بما يسمح بالعودة للوضع المعياري في سيادة العدالة.

لكن ولأن الفلسفة الأوروبية تطورت بالاستناد إلى ما نقله وطوره ابن رشد والفارابي وابن سينا وابن خلدون من فلسفة الإغريق، في الوقت الذي حوربت لدينا أفكار هؤلاء الفلاسفة المسلمين بداعي الهرطقة والزندقة، فقد قادت هذه الفلسفة المتطورة الغرب إلى الإبداع في عملية بناء النظريات العلمية، وبالتالي هيمنة علومها على العالم.

لأجل ذلك لم يتمكن رأي الأصم لدينا من التحول إلى نظرية على غرار ما فعله رولز المتأخر عنه بأكثر من ألف عام، بل انتظرنا حتى أتى رولز لندرس هذه النظرية بكل احترام مفروض بقوة العلم، سواء اتفقنا أم اختلفنا معه، لكننا نقدر ذلك هذه المرة كإبداع وليس شذوذاً.

وقد قدم رولز نظريته تلك من خلال فكرة سماها (المجتمع جيد التنظيم) وهو:

* أن كل فرد في المجتمع يقبل مبادئ العدالة نفسها، ويعرف أن كل شخص آخر يقبلها أيضاً.
* أن يكون معروفاً بصورة عامة أن بنيته الأساس (مؤسساته) تحقق تلك المبادئ.
* أن يكون عند المواطنين شعور فعال وعادي بالعدالة، ما يدفعهم إلى أن يطيعوا مؤسسات المجتمع الأساس التي يعتبرونها عادلة.

وبالتالي يدعو رولز، من خلال هذا النموذج، لإعادة تشكيل المجتمع وقواعده الأساسية على قاعدة قيمية معيارية هي "العدالة" بعيداً عن نظام الدولة الحديثة، ذلك النظام الذي جعل من الدولة الأساس الذي يبنى عليه المجتمع الحداثي، وبالتالي حولها إلى إله يحكم المجتمع ويقوده متجرداً من البعد القيمي والأخلاقي الذي فسدت حياة الإنسانية بالبعد عنه.

لافت بشكل كبير جداً ذلك التقاطع بين ما رآه الأصم من قبل وما جاء به رولز، حول مفهوم المجتمع المنظم وفق أسس وقيم أخلاقية تتناسب مع الطبيعة الإنسانية التي يفترض أن البشر ينتمون إليها فطرياً وتكوينياً، الأمر الذي بات حقيقة واقع في نماذج بعض الدول من العالم المتقدم (كالنرويج والسويد).

فهل جاء رولز بعد كل تلك القرون ليؤكد أن شذوذ الأصم كان هو الصواب في نظرته للدولة ودورها في المجتمع، أم أن في الأمر تفصيلاً غير ذلك.

لا شك أن مثل هذا الأمر يحتاج لكثير من البحث والكثير الكثير من الإنصاف قبل ذلك.

_______________________
المصادر

[1] – الإمام الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية.
[2] – John. S. Mill: 'On Liberty' and Other Writings (1989 edition), Cambridge University Press – ISBN: 9780521379175
[3] – تقي الدين أحمد بن تيمية، منهاج السنة، الناشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، 1986، الجزء الثاني، ص 571.
[4] – القاضي عبد الجبار المعتزلي ، المغني في أبواب التوحيد والعدل (في الإمامة)، الجزء العشرون، ص 48.
[5] – الشهرستاني – الملل والنحل، ص 21.
[6] – John Rawls, the theory of justice, the belknap press of harvard university press cambridge, Massachusetts, 1971.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد