لطالما تخيلت الروح ككبة حلوى غزل البنات؛ كتلة من الهواء الكثيف الذي يشبه ضباباً نقياً، أبيض وخفيفاً، يسبح في سماء يوم مشرق… أتخيلها متماسكة من الداخل مرهفة من الخارج، لها نقطة مركزية وكأنها قلب يضخ بدل الدم نوراً، ينبض ويتعب ويشع ويخفت، لكنه لا ينطفئ إلا مرة واحدة لا يشتعل بعدها أبداً..
أتخيلها كفضاء رحب يخنقه الجسد لكنه لا يحده، مليء بالأسرار التي تجعل اكتشافه معقداً والتعامل معه صعباً في ظل العجز عن التحكم فيه.
لفترة طويلة كنت أتساءل عما إذا كان الأمر سيكون أفضل لو أن هذه الكتلة كانت لحمية أو شحمية حتى؛ لو أن الروح كانت عضواً نحركه كما نحرك أصبع اليد، نشكله ونلونه كما نفعل بشعر الرأس؛ لو أنها كانت معدة، بالإمكان أن نرى بوضوح الطعام الذي نطعمها إياه، فنحضره وننتقيه ونتشاركه مع من نريد، نعرف قيمته أكان بسيطاً أم فاخراً، نستشعر المغص إن كان مضراً، نستلذ بما طاب منه ونميز المغذي منه والذي لا يفيد.
لو أنها كانت عظمة فقط، نعرف متى وكيف تنشق ونجبرها حين تنكسر برباط أو حديد، لو أنها شرايين، أو أنسجة أو أي شيء آخر مادي، نراه أو نلمسه، نعرفه أكثر ولا نشعر بأنه شيء غريب يسكننا ونحاول التعايش معه، بل ندرك أنه جزء منا ونمتن لكونه كذلك.
الأكثر إثارة هو أن الروح لو كانت عضواً لكان بالإمكان إثبات الأعطاب التي يمكن أن تصيبها وكذلك وصفها؛ سيصبح عادياً أن نتكلم عن حُمّى الروح والتهاباتها وغيرها من المشاكل التي يمكن التحدث عنها بسلاسة مع الآخرين، سيصبح متداولاً أخذ لقاحات وقائية لتفادي الفيروسات الموسمية وتناول مضادات بكتيرية في حالات النزلات الروحية العابرة وتتبع أنظمة علاجية، خاصة عندما تصبح الحالات أكثر تطوراً.
تغافلت عن أن تحول الروح لعضو معناه غيابها بالماهية التي هي عليها الآن، ما معناه غياب طاقة محركة للجسد ونقصان جزء مقدس منه واقتصاره على أجهزة مرتبطة بشكل ميكانيكي فقط؛ بل أكثر من ذلك، تجاهلت كون هذا الجانب المبهم ربما هو الذي يخفف من وقع ما يعيشه الجانب المرئي ويشكل حاجزاً يمنع الأضرار التي تصيبه من الارتداد… اخترت أن أؤمن بأن الألم يزيد حين تصعب رؤيته وألغيت احتمالية كون النظر لعمق الجراح هو ما يضاعف استشعارها؛ كنت مقتنعة طوال هذه المدة بأن الأمر كان ليكون أسهل لو أن الروح كانت عضواً.
وأنا أتخيل ذلك، افترضت أن هذا يستوجب أن يصير بالإمكان زيارة طبيب مختص في مداواتها، يقوم بفحصها يدوياً أو بالأشعة، ويطلب القيام بتحاليل مخبرية قد تظهر نسب تفاوت المكونات فيها وتفاعلاتها، فيشخص الأمراض ويعطي الوصفات الطبية ويجري العمليات الجراحية في الحالات القصوى.
مجرد تخيل إمكانية الخضوع لعمليات جراحية على الروح يجعل الأمر يبدو كخيار بديل له الكثير من المحاسن؛ أن يتم تخدير الروح، فتحها واستئصال الخبائث التي تتواجد فيها ثم إغلاقها من جديد حسب بروتوكول طبي محدد يستوجب حضور طاقم طبي كامل يرى خلل الروح التي بين يديه ويدرك يقيناً أنه موجود فعلاً، وضعية تبدو أفضل من احتواء روح مجردة تعوم داخل الجسد دون أن تتخذ شكلاً يجسدها، تستشعر آلاماً على مستواها دون أن تكون قادراً على تحديد تموقعها بالضبط ولا أصلها.
أعرف أن العلم الذي لم يكتشف بعد كل خبايا معجزة الجسد البشري لن يجد جواباً لكل العلل التي قد تصيب الروح ولو تحولت لعضو؛ ستفتح مستشفيات روحية وهذا لا يعني بالضرورة أن يدخل إليها كل الناس مرضى تعبين ويخرجوا بأرواح معافاة فهذا تفكير ساذج، ولكنني أعتقد أنه حتى ولو ظهرت أمراض مزمنة وأوبئة معدية وفيروسات قاتلة فإن الحال سيكون أفضل من إصابة روح كالتي نمتلكها الآن، ولو تعلق الأمر بسرطان الروح.
فلو كانت الروح عضواً وكان هناك سرطان روح، لكانت أعراضه تبرز على المصاب به ولكان المحيطون به يواسونه في مصابه ويتفهمون أنه يخوض حرباً فيدعمونه وهم يرون بأعينهم المخلفات التي يتركها على أجسادهم؛ فأن تتراكم الخلايا الروحية المدمرة بشكل غير طبيعي وتشكل أوراماً خبيثة وعدائية تقتل الناس هو أرحم من أن تنتشر غازات مسمومة لا يستطيع العلم رصدها، تتصرف بعدائية مع الجسد دون أن تلمسه وتودي بحياة الناس دون أن تقتلهم دفعة واحدة، يتدمرون في صمت وتحتضر مكنوناتهم دون أن يشعر بهم أحد، يحملون أمراضهم الروحية دون أدنى فهم لما تفعله بهم ولا قدرة على التخلص منها؛ يتعايشون مع سرطان من نوع آخر، كان ليكون أخف حدة لو أن الروح كانت عضواً!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.