علماء الدين بين الأمس واليوم

اليوم، اخترت أن أحدثكم عن دور عالمين بارزين في الإسلام، كان لهما واضح الأثر في حشد الصفوف لصد التتار وتخليص المسلمين من شرورهم، وقصة عالم جليل آخر لم ينحنِ لذي سلطان، ولم يمد يده إليه طلباً لجاه أو حظوة.

عربي بوست
تم النشر: 2017/12/31 الساعة 05:01 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/12/31 الساعة 05:01 بتوقيت غرينتش

في كتب التاريخ صفحات كثيرة غير مروية، وسير عطرة لم يصلنا ريحها، أغفلتها أقلام المؤرخين وبحوث الدارسين، فجثم عليها غبار النسيان، ولم يرفع ذكرها رغم تعاقب السنين، مما يحتم نفض هذا الغبار عنها، واستكشاف ما خبأته تلك الصفحات داخل بياضها، واستنشاق عبق مدادها الذي سكبته شخصيات وأحداث عتيقة وموغلة في القدم.

تاريخنا إذا لم نكتبه نحن، ولم نسبر أغواره بأنفسنا، جاء من يكتبه عنا ليحشو عقولنا بأحداث مزيفة ومفبركة، تجعل من ذاكرة الأجيال ذاكرة مسلوبة ومغشوشة، كما هو حاصل في هذا الزمان، الذي زحف فيه الغش بكلكله على كل شيء.

ولأن العلماء ورثة الأنبياء، فقد كانوا طيلة تاريخنا المشرق، القاطرة التي تقود الأمة نحو مجدها ورقيها، تارة بنشر العلم وإشاعته بين الناس، وتارة أخرى بالنصيحة لأولي الأمر والتخندق في الصفوف الأولى للدفاع عن الأمة والذود عن حياضها ضد كل من يجرؤ على تعكير صفو حياة المسلمين.

اليوم، اخترت أن أحدثكم عن دور عالمين بارزين في الإسلام، كان لهما واضح الأثر في حشد الصفوف لصد التتار وتخليص المسلمين من شرورهم، وقصة عالم جليل آخر لم ينحنِ لذي سلطان، ولم يمد يده إليه طلباً لجاه أو حظوة.

من الشام إلى مصر ففلسطين!
القصة بدأت على حين غرة، فكما تسقط الصاعقة من السماء فتحرق وتدمر، انقضت جموع جيوش التتار بقيادة "هولاكو" على بغداد عاصمة الخلافة العباسية، فأحرقت وسفكت الدماء وعاثت فساداً وإفساداً في الأرض.

بلغ من هول الفاجعة التي تعرض لها المسلمون آنذاك، أن الجندي التتاري، كما ذكر ابن كثير في "البداية والنهاية"، كان يمر بالجماعة من المسلمين فيصرخ فيهم طالباً منهم أن يلزموا أماكنهم حتى يعود إليهم بحبل يربطهم به ليقتلهم بعد ذلك، فيمضي التتاري لأمره ويعود بعد ساعات فيجد أولئك الجماعة في أماكنهم التي تركهم فيها، قد منعهم الهلع والخوف أن يبارحوها، فيقتلهم واحداً تلو الآخر.

وما كان هذا الذي لقيته بغداد من همجية التتار لتلقاه، لولا أن أهلها قد استمرأوا حياة الدعة والترف، وبعدت بهم الشقة عن حياة الجهاد والرباط، فلما أن واجهتهم العاصفة، تهاوت مقاومتهم كما تتهاوى الخشب المهترئة التي نخرها السوس أمام نسمات الهواء.

كانت بغداد في تلك الأيام العجاف في مأتم عظيم، ووصلت أنباء ما حاق بها إلى دمشق، وأدرك أهلها أن عاصفة التتار لن تلبث أن تهب أنواؤها عليهم بعد قليل، فهب العلماء وفي مقدمتهم العالم المؤمن المجاهد "ابن تيمية" -رحمه الله- يشحذون الهمم ويثيرون الشوق إلى الجنة ورضوانها في النفوس، فقد أدرك "ابن تيمية" -رحمه الله- أن وحدة المسلمين هي الدرع المكين الذي تتكسر دونه سهام التتار وسيوفهم، فانطلق إلى مصر ماراً بفلسطين وصحراء سيناء حتى وصلها بعد عناء طويل، فاستصرخ أهلها لنجدة دمشق قبل أن تلفح أسوارها أنواء العاصفة التتارية الهوجاء، فاستجاب "السلطان قطز" لنداء "ابن تيمية" وسار على رأس جيش عظيم لينضم إلى قائده "الظاهر بيبرس" لملاقاة التتار.

وكان علماء الإسلام في مقدمة المجاهدين، وعلى رأسهم "ابن تيمية" و"محيي الدين النووي" رحمهما الله، وفوق هضاب فلسطين وفي "عين جالوت"، كان موعد التاريخ مع صفحة مشرقة جديدة يضيفها لسجل أمتنا الإسلامية، في الخامس عشر من رمضان المبارك عام 658 هجري، خلدت بطولات أجدادنا من العلماء وغيرهم، الذين دحروا التتار وهزموهم وخلصوا المسلمين من شرهم، بكل شجاعة وعزيمة وإباء.

الذي يمد رجله لا يمد يده!
دخل جبار الشام "إبراهيم باشا" بن محمد علي حاكم مصر، المسجد الأموي في وقت كان فيه عالم الشام الجليل الشيخ "سعيد الحلبي" يلقي درساً في المصلين، ومر "إبراهيم باشا" من جانب الشيخ، وكان ماداً رجله فلم يحركها، ولم يبدل جلسته، فاستاء "إبراهيم باشا" واغتاظ غيظاً شديداً وخرج من المسجد وقد أضمر في نفسه شراً بالشيخ.

ما إن وصل قصره حتى حفّ به المنافقون من كل جانب، يزيّنون له الفتك بالشيخ الذي تحدى جبروته وسلطانه، وما زالوا يؤلّبونه عليه حتى أمر بإحضار الشيخ مكبلاً بالسلاسل.

وما كاد الجند يتحركون حتى عاد "إبراهيم باشا" فغير رأيه، فقد كان يعلم أن أي إساءة للشيخ ستفتح له أبواباً من المشاكل لا قبل له بإغلاقها.

وهداه تفكيره إلى طريقة أخرى ينتقم بها من الشيخ، طريقة الإغراء بالمال، فإذا قبله الشيخ فكأنه ضرب عصفورين بحجر واحد: يضمن ولاءه ، ويسقط هيبته في نفوس المسلمين فلا يبقى له أثر.

أرسل "إبراهيم باشا" إلى الشيخ ألف ليرة ذهبية، وهو مبلغ يسيل له اللعاب في تلك الأيام، وطلب من وزيره أن يعطي المال للشيخ على مرأى ومسمع من تلامذته ومريديه.

انطلق الوزير بالمال إلى المسجد، واقترب من الشيخ وهو يلقي درسه، فألقى السلام وقال للشيخ بصوت عالٍ سمعه كل مَن كان حول الشيخ الجليل: "هذه ألف ليرة ذهبية يرى مولانا الباشا أن تستعين بها على أمرك".
نظر الشيخ نظرة إشفاق نحو الوزير، وقال له بهدوء وسكينة: "يا بُني، عُد بنقودك إلى سيدك وردها إليه، وقل له إن الذي يمد رجله لا يمد يده".

هكذا كان علماؤنا، رهبان في الليل، فرسان في النهار، لا يبيعون أنفسهم ومبادئهم بدراهم معدودات لهذا السلطان أو ذلك الملك، ليست لهم بروج عاجية مثل الحاصل اليوم، يطلون من فوقها على الناس دون أن يتحسسوا مشاكلهم أو يسمعوا أنينهم، فلا يجيبون من يستصرخ بهم، ولا يهرعون إلى من يستنجد بهم.. فلا نامت أعين الجبناء من العلماء.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد