تظهر يوماً بعد يوم ومنذ قُبيل استفتاء تقرير المصير في كردستان العراق وحتى الآن مدى أكذوبة مدّعي الحرص على وحدة العراق من جانب مراكز القوى المذهبية الحاكمة والموالين لها في بغداد التي تأتمر بتوجيهات نظام الولي الفقيه بطهران، وضخامة التآمر المخطط منذ حين، وقبل الاستفتاء لضرب وحدة الكرد وتقسيم مناطقهم وإداراتهم والإساءة لإنجازاتهم القومية والوطنية، التي تحققت بفضل تضحياتهم منذ أكثر من قرن، وعبر أنهار من الدماء وثورات وانتفاضات ضد الظلم القومي والاجتماعي كأي شعب حُر مكافح في العالم.
نعم قد تختلف الرؤى والاجتهادات حول مسألة الاستفتاء على تقرير المصير كردياً وعراقياً وخارجياً، والتي اتخذت منحنيين:
المنحى الأول: مع مبدأ حرية شعب كردستان وحقه في اتخاذ ما يراه مناسباً حول مصيره، ومع أن تقوم قيادته باستطلاع رؤيته، وماذا يريد؟ ولكن وبسبب العوامل السياسية الذاتية والموضوعية الراهنة واحتمال أن تستغل ذلك القوى المتربصة بالداخل والجوار رأى أن التوقيت غير مناسب من باب الحرص أولاً وآخراً.
أما المنحى الآخر فاتخذ الاستفتاء ذريعة وتوقيتاً مناسباً لتنفيذ المخطط المرسوم مسبقاً الذي سار بخطَّين متكاملين: تكريس الانقسام في الصف الكردي، وممارسة القتل والإرهاب والمواجهات العسكرية بهدف التطهير العرقي والمذهبي، خاصة في كركوك والمناطق الأخرى المعروفة بـ(المتنازع عليها).
وهكذا نرى أن المسألة ذات شقين: تكتيكي شكلي ظاهري يتعلق بالتوقيت، واستراتيجي يرتبط بالمبادئ والرؤى والسياسات تجاه مصير شعب كردستان، في الأول يمكن مناقشته وحتى إمكانية قبول الخطأ والصواب، وتصحيحه عبر الطرق المألوفة من ممارسة النقد والنقد الذاتي وحتى المحاسبة، ولكن في الأطر المؤسساتية التشريعية والتنفيذية والحزبية، وهو أولاً وآخراً يعود إلى الإرادة المستقلة، خاصة أن اليوم التالي للاستفتاء لم يكن إعلان الدولة المستقلة ولم تكن القيادة في وارد إعلان الدولة، بل كانت ستحمل نتائج التصويت (92%) كوديعة ووثيقة في تعاملاتها مع الحكومة الاتحادية والعالم، وأمانة في أعناق كل مَن يهمهم احترام إرادة الشعوب من جانب جميع العراقيين كرداً وعرباً وشيعةً وسُنةً ومكونات أخرى.
وقد أكدت حكومة إقليم كردستان في 24 – 25 / 9 ما ذهبنا إليه أعلاه عندما أعلنت تجميد نتائج الاستفتاء، أي مبدأ حق تقرير المصير، إلى وقت غير محدد، بمعنى آخر حتى تكتمل الشروط والأسباب الذاتية والموضوعية المواتية، وحتى تتوفر عوامل ثلاثة: (الإجماع القومي والتوافق الوطني والبيئة الديمقراطية الضامنة)، والأمر هذا ليس بجديد على الشعوب المحرومة من حقوقها، فإن جرى الاستفتاء أو لم يجرِ سيظل المبدأ قائماً لدى كرد العراق وتركيا وإيران وسوريا، ولدى الشعب الفلسطيني والكتالوني والأمازيغي والباسكي وغيرها من شعوب وأقوام الكرة الأرضية.
واضح ما تسعى إليه مراكز القوى المذهبية في بغداد عندما تطالب بإلغاء الاستفتاء وليس تجميده أو تأجيل نتائجه، فإضافة إلى تعجيزية المسعى وعدم موضوعيته، وإضافة إلى ذرائعيته الفاضحة؛ حيث تحاول إطالة الوقت لإجراء تغييرات على الأرض بالقوة العسكرية، خصوصاً في مناطق حساسة بالإقليم، وتوجيه الإهانة إلى قوات البيشمركة التي تعتبر في مصاف مقدسات شعب كردستان، وتعميق الشرخ في الصف الكردستاني، وفرض الإملاءات وزيادة التفاعلات السلبية، فإن الموقف برمّته يعود إلى إرادة حكام طهران كجزء من الصراع مع أميركا والغرب عموماً، والعرب وكل الرافضين لنفوذهم في المنطقة.
هذه الحقيقة يجب أن يعلمها الأصدقاء في أميركا وأوروبا والعرب والترك والإيرانيون وحتى جامعة الدول العربية والتعاون الإسلامي؛ لأن الممر المذهبي الإيراني سيمر من ربيعة وزمار وكركوك ومخمور.
السيد مسعود مصطفى بارزاني وما يحمله من معانٍ ودلالات وتاريخ أباً عن جد وجدود منذ ريعان شبابه وحتى الآن، هو ملك شعب كردستان قد يسير خلفه وقد ينقده أو يعفيه من المسؤولية أو يعيده إلى رأس الهرم، فشعب كردستان لديه مؤسسات تشريعية وتنفيذية منتخبة، وله خبرة نضالية وكفاح مشهود له من أجل الحرية والديمقراطية وضد الديكتاتوريات والإرهاب ومجتمع مدني وأولاً وآخراً مفعم بالكرامة والاعتزاز بالنفس، وشعب بهذه الصفات من الصعب أن يسمح لخدمة وزبانية قاسم سليماني الطائفيين العنصريين من أمثال العامري والمهندس بالتدخل بشؤونه وفرض الإملاءات عليه.
إن الدعوة من بغداد وطهران وأنقرة بإزالة نتائج الاستفتاء لن تتم إلا بإجراء استفتاء جديد من نفس "92%" الذين صوّتوا بنعم لتقرير المصير، وعلى الأرجح وفي ظل هذه الظروف الساخنة والأجواء العدائية من حول شعب كردستان ستكون النتائج إن أعيد الاستفتاء تحت رعاية الأمم المتحدة مثلاً أكثر من النسبة السابقة قبل نحو شهر، والأمر واضح للجميع بمن فيهم الأطراف الصديقة والمعادية في الداخل والخارج.
حتى لو فرضنا جدلاً أن قيادة الإقليم تتحمل المسؤولية فيما آلت إليها الأوضاع بالإقليم، فإن القيادات السياسية العراقية بالحكم وخارجه مسؤولون مباشرة عن تردي الأوضاع عامة وفي كردستان خصوصاً، وعن ظهور إرهابيي داعش واحتلال الموصل والمناطق الأخرى، واستشراء الفساد والمحسوبية والاستقطاب الطائفي وانتفاء الانتماء الوطني والتبعية لنظام الولي الفقيه، وبناء الجيش بمواصفات مذهبية، وتجيير أرض العراق وإمكانياته في خدمة نظام الاستبداد بدمشق والميليشيات الطائفية العراقية التي تحارب الشعب السوري، وتخدم سياسة طهران هناك، وليس أمام الجميع إلا إنقاذ ما يمكن إنقاذه بالعودة إلى التوافق الوطني والحوار، والحفاظ على سيادة العراق واستقلالية قراره.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.