العقل هو المنحة الربانية التي فضَّل الله بها آدم وذريته على غيرهم من مخلوقات لا تعد ولا تحصى، وهو المنحة التي يقوم على أساسها أمانة قرار الاختيار، وبدونها فإن التخبط والتيه هو المصير المشؤوم سواءً لمن لا يحسن استخدام تلك المنحة فيملأها بأفكار ومفاهيم من غير تمحيص أو تدقيق، أو لمن لا يستخدمها مطلقاً فيولي غيره قرار اتخاذ الاختيار في حياته.
وإنه وعلى الرغم من فتح أبواب العلم المختلفة على مصارعها والنقلة النوعية في عالم التواصل والتكنولوجيا القائمة على الاستخدام الصحيح للعقل التي أثبت هذا العقل استطاعته تطويرها والتعامل معها، ورغم القفزات النوعية في سبيل الفهم الصحيح للكون ومكوناته، فإن المؤسسات الدينية المختلفة سواء الأكاديمية أو المشيخية – وبسبب الظروف التي آلت إليها نتيجة للأفكار والأساليب التقليدية القديمة – ما زالت تعطي إجابة واحدة للسؤال الجدلي: أيهما يقدم، العقل أم النقل؟ لتقدم النقل، معللة عدم الوثوقية في مخرجات العقل؟!
إن كتاب الله جاء ليجيب عن تلك الأسئلة التي تهدي العقل في مسألة الاختيار، ولينير له الطريق ليحسن القرار، لا ليثبت عجزه كما يزعم من يزعم، ولا ليملي على العقل ما يجب اختياره، أو ليكون آمراً له في شكل فعله أو تصرفه كما يُظن، بل جاء ليعطي العقل الفسحة في أن يتفاعل مع عناصر الحياة لينتج مزيداً من أشكال الترقي.
لقد آن لتلك المؤسسات الدينية بمختلف صورها أن تولي العقل حقه، وأن تستهدف تطويره نحو أعماله بتمحيص كل ما ولج ويلج إليه، وتحرره، وأن تدفع به لينشط من غير قيد أو شرط، ومن غير إملاءات أو فرض أشكال وصور لتفاعله أو كبح لخيالاته.
إن العمل على إطلاق الحرية للعقل ليتفاعل ويختلف ويبدع، وليقوم بغربلة الأفكار والمفاهيم من خلال تجربتها واقعياً، وتحفيزه باتجاه هذا الهدف قد يكون عملاً خلاقاً إذا ما تم اعتماده في المؤسسات الدينية بديلاً عن التلقين، وملء العقل باللامعقولات، وزرع مفاهيم التقديس، وغصب العقل أن يتقبل ما لا يمكن تقبله، وبديلاً أيضاً عن إشاعة مفاهيم الثوابت والمسلمات أو التحليل والتحريم من غير ضابط حقيقي، والتي يسعى من يكرس إشاعتها وتعميمها بهذا الشكل المخالف لأصل الدين الإلهي لمزيد من السيطرة ووضع القيد على الفكر والإبداع في مختلف المجالات.
لقد حض كتاب الله على إعمال العقل، مستنكراً التقليد الأعمى للآباء – مهما كان أولئك الآباء – مستفهماً عن ذلك السلوك الغريب (أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون) وتارة (أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون)؟؟ منبهاً إلى وجوب تفحص الأفكار الآبائية وتمحيصها من خلال العلم والعقل، والذَين تجمعهما علاقة عكسية مطردة.
إن إعادة النظر في جميع المعتقدات والأفكار وغربلتها – مهما كان مصدرها -، واستبصار الأمور بشكل جديد باستخدام عقل الواقع واللحظة والمكان قد يكون الخطوة الأولى لعودة الأمة لسلوك الطريق الصحيح، نأياً بها عن التبعية العمياء أو السلطان القاهر أو كذب الدجالين أو حيل المشعوذين أو استغفال العقل والتقليل من قدراته أو التعامي عن إبداعاته.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.