يؤكد المسؤولون الفرنسيون استعدادهم لحماية الجمهور والمشاهدين في بطولة أوروبا لكرة القدم 2016، لكن مع قدوم الملايين لحضور البطولة التي تستمر لمدة شهر، هل بوسعهم حماية الجميع حقاً؟
طغت صافرات الإنذار على صوت المسافرين الذين ينتظرون القطارات في محطة غار دي ليون. وانطلق صوت الإذاعة الداخلية مردداً، بالفرنسية والإنكليزية "يجب إخلاء المحطة. الرجاء الاتجاه إلى المخارج ومساعدة الأشخاص الذين يواجهون أي صعوبات".
لم يتحرك أحد، مئات الأشخاص القادمين من أنحاء فرنسا، بل ومن شتى أرجاء العالم، تجمدوا للحظة وسط مزيج من الخوف، والارتباك، وعدم الوعي والسخرية اللامبالية.
كان بعضهم قد سمع الإعلان الأول الذي سبق رسالة الإخلاء بوقت قصير، والذي جاء فيه أن هذا اختبار لأنظمة الإخلاء، بينما لم يسمع البعض الآخر ذلك الإعلان، لكنهم شهدوا للحظة ماذا يعني القدوم لبلدٍ مرّ بهجمتين إرهابيتين دمويتين منذ يناير/كانون الثاني 2015، وربما يستعد للمزيد الآن.
تستضيف فرنسا بطولة أوروبا لكرة القدم 2016، بدءاً من مساء الجمعة وعلى مدار الشهر القادم، وهي المسابقة التي تشهد تنافس منتخبات كرة القدم لدول أوروبا، والتي ينتظرها ملايين المشاهدين بشوق، في الملاعب وعبر التليفزيون حول العالم، وفي الأماكن المفتوحة، وهي أكثر ما يُقلق السلطات الفرنسية، مثل ساحة دي مارس حول برج إيفل، بحسب تقرير نشرته صحيفة دايلي بيست الأميركية، الجمعة 10 يونيو/حزيران 2016.
مخاوف من الفشل
تشهد هذه الساحات، المعروفة بمناطق المشجعين، آلاف وربما عشرات الآلاف من المشجعين المجتمعين لمشاهدة المباريات عبر الشاشات العملاقة، وعلى الرغم من وجود تفتيش أمني، خاصة مساء الجمعة، إلا أنه مع استمرار المباريات بعد ذلك، يوماً بعد يوم، وساحةٍ وراء ساحة، فغالباً ستشهد بعض عمليات التفتيش والإجراءات الأمنية مزيداً من التراخي.
في نهاية المطاف، ومثل كل عمليات مكافحة الإرهاب، سيمثّل عمل المخابرات الجيد خط الدفاع الأول والأقوى، وحين يفشل ذلك، مثلما حدث في الهجمات على شارلي إيبدو وعلى المشترين اليهود في أحد بقالات الكوشير في يناير/كانون الثاني، أو في المجزرة التي شهدتها باريس في نوفمبر/تشرين الثاني، والهجمات المتصلة بها في بروكسل خلال مارس/آذار، فهناك القليل مما يمكن القيام به لحماية المدنيين من الإرهابيين الراغبين في قتل أي شخص يمكنهم قتله في أي مكان يمكنهم إيجاده.
في الهجمات الدامية التي شهدتها باريس في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، كان الانتحاريون المتسببون في سقوط أقل عدد من الضحايا قد حاولوا في البداية دخول إحدى المباريات الودية بين فرنسا وألمانيا في استاد فرنسا الضخم، لكنهم فشلوا. ويستضيف هذا الاستاد المباراة الأولى للبطولة الأوروبية مساء الجمعة، بين فرنسا ورومانيا.
أما المجزرة الحقيقية في نوفمبر/تشرين الثاني، فقد وقعت في حفل لموسيقى الروك في مسرح باتاكلان، بالإضافة لإطلاق النار العشوائي الذي شهدته المقاهي على جانبي الطريق، أما إرهابيو بروكسل فلم يتمكنوا من الصعود على متن الطائرات، ففجروا أنفسهم في صالات مغادرة المطار، وفي مترو الأنفاق.
صحيح أن المسؤولين الفرنسيين مصرين على تحسن عمليات جمع وتبادل المعلومات الاستخباراتية حول الجهاديين، لكنهم ادعوا نفس الأمر بعد هجمات إرهابية سابقة، ولم تمنع هذه الادعاءات وقوع مزيد من الهجمات.
ويعزي بعض المسؤولين الفرنسيين أنفسهم، بشكل شخصي، بفكرة الارتباط بين هجمات نوفمبر/تشرين الثاني الدامية التي شهدتها باريس، وبين الهجمات التي شهدتها بروكسل في مارس/آذار، كما أنه من المفترض أن كل الوجوه التي تورطت في هذه الهجمات في أوروبا هي إما رهن الاعتقال، أو فجرت نفسها بالفعل.
خلايا في الخفاء
لكن هذا لن يكون عزاءً كافياً إذا كانت هناك خلايا أخرى تعمل في الخفاء، أو خلايا سقطت عن نظر السلطات بعدما اكتشفتها بالفعل، مثلما حدث في الهجمات التي شهدتها كل من باريس وبروكسل.
وذكر تقرير نشرته صحيفة Le Monde الفرنسية الأسبوع الماضي أن السلطات الفرنسية اعتقلت شخصاً ادعى انضمامه لإحدى خلايا تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) النائمة، بعدما قرر التوبة وتسليم نفسه، لكن الكثيرين لن يكرروا ما فعل.
كما أنه ليس من المطمئن عودة عمر ديابي أحد المسؤولين عن تجنيد الجهاديين في فرنسا، والمعروف بعمر عمسين، للظهور مرة أخرى في المقابلة التي أرسلها لدايلي بيست عبر سكايب وتظهره بصحة جيدة ومتحدثاً من إحدى المناطق السورية حسب ما قال، بعدما ساد الظن أنه قُتل في العام الماضي بعد ذهابه لسوريا في 2013.
ولا تمثل الفعاليات الضخمة مثل بطولة يورو 2016 لكرة القدم إغراءً للجماعات الإرهابية مثل داعش والقاعدة فقط، بل تجذب العديد من الأشخاص التائهين والخاسرين العنيفين من مختلف الديانات والأيدلوجيات الأخرى.
كما أعلنت أوكرانيا مؤخراً القبض على أحد أتباع اليمين الفرنسي المتطرف المزعومين، لتخطيطه الهجوم على مسجد، ومعبد يهودي وغيرهما من الأهداف في فرنسا، في محاولة لإشعال حرب عرقية ودينية.
وبحسب جهاز الأمن الأوكراني، فقد عُثر بحوزة جريجوار مونتو على ترسانة من الأسلحة التي تضمنت بنادق وقذائف صاروخية، بالإضافة إلى 150 كيلوغراماً من مادة TNT، والتي تمكن من الحصول عليها من السوق السوداء للأسلحة في أوكرانيا، والذي يزدهر في فناء أوروبا الخلفي.
وهو ما يجعل الوضع مقلقاً، لا بسبب التهديد الذي أعلن عنه الأوكرانيون فقط، بل أيضاً بسبب الارتباك المحتمل الناتج عن عدم الثقة في أجهزتهم الاستخباراتية.
إذن هل يصبح هذا الشاب الشغوف بالزراعة والذي يخلو تاريخه من أي عمل إجرامي، "أندريه بريفيك" آخر، كارهاً المسلمين الذي قتل 77 بريئاً في النرويج؟
وعلى الرغم من بدء التحقيقات الأولية في فرنسا، إلا أنه لم يتم اعتبار مونتو مشتبهاً إرهابياً بعد، كما يحذر المسؤولون الفرنسيون من القفز إلى استنتاجات. وبالفعل يواجه مونتو حالياً تهمة " تهريب الأسلحة"، وتتولى السلطة القضائية الإقليمية هذه القضية، لا وحدة مكافحة الإرهاب الفرنسية.
وذكر مصدر قريب من التحقيقات لصحيفة L'Express "من الصعب استبعاد الدوافع الإرهابية، لكن حتى هذه اللحظة لا شئ يشير في هذا الاتجاه".
في الوقت ذاته لا يُقارن ضباب الحرب الناتج عن مواجهة الإرهابيين الحقيقيين أو المزيفين أو المشتبه بهم، بعدم اليقين الذي يكسو الحرب ضد حفنة من المجانين الذين يملكون الإرادة والوسائل لذبح عشرات أو آلاف الأبرياء.
وفي محاولة لطمأنة الشعب الفرنسي، والزوار القادمين لحضور مباريات يورو 2016، أعلنت الحكومة الفرنسية عن حزمة خاصة من الإجراءات الأمنية، والتي يعدها المختصون خط الدفاع الأخير أمام الهجمات.
90 ألف عنصر أمن
وبحسب وزارة الداخلية الفرنسية، سيتواجد 42 ألف فرد من الشرطة الوطنية لحماية الجمهور والمباريات، و30 ألف شرطي، و5200 عامل للطوارئ، من ضمنهم 300 من خبراء المفرقعات، أثناء بطولة يورو 2016 والتي ستجري بين 10 يونيو/حزيران و10 يوليو/تموز، والتي ستضم 51 مباراة بين 24 منتخباً في باريس وليل ولنس وسانت دينيس وليون وسانت إتيان وتولوز وبوردو ومرسيليا ونيس، ومن المتوقع أن تجذب هذه البطولة 2.5 مليون مشاهد في الملاعب، والملايين خارجها، بالإضافة لـ8 مليارات مشاهد حول العالم.
كما سيتم تخصيص بعض من العشرة آلاف جندي الذين يعملون على نشر الأمن في "عملية الحراسة"، ليورو 2016 بالذات، كما سيوجد 10000 من أفراد الأمن الخاص، بالإضافة لأعضاء الحماية المدنية وشرطة البلدية في الساحات المختلفة.
إذن في المجمل، يوجد 90 ألف شخص للعمل على حماية البطولة ومبارياتها، ماذا لو فشل كل ذلك؟
شهدت البلاد هذا الربيع عشرات التدريبات الرئيسية، الأضخم في تاريخ فرنسا، وضمت هذه التدريبات التي جرت في مدينة نيم، ما يزيد على 1000 طالب من أكاديمية الشرطة الوطنية، لاجتياز محاكاة لهجوم إشعاعي أو بيولوجي أو كيميائي في أحد "مناطق المشجعين". وتركزت الدروس حول كيفية التعامل مع الحشود المذعورة واحتوائها بعد انتهاء العمل الإرهابي.
وهو ما يشبه التجارب التي جرت في محطة جار دي ليون المزدحمة في باريس أيضاً، حين سمع المسافرون المنتظرون للقطارات السريعة التي ستقلهم لوجهتهم صوت الإذاعة الداخلية "يجب إخلاء المحطة"، والتذكير الذي تلى هذه الرسالة "تجاهلوا هذا الاختبار"، وهو ما سيجري إلى أن لا يكون هذا اختباراً على الإطلاق.
وقبل ثمانية أيام من انتهاء يورو 2016، تنطلق Tour de France لمدة 22 يوماً أخرى، وفي عامٍ طبيعي، سيصطف 12 مليون مشاهد على جانبي طريق سباق الدراجات الأشهر، ليستمر الإغراء الإرهابي حاضراً.
-هذا الموضوع مترجم بتصرف عن صحيفة The Daily Beast الأميركية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.