يبدو أن العالم قد اكتشف أخيراً أن بين نسائه من يُنتهكن ويُغتصبن ويُتحرش بهن بعد أن نشرت الـ"نيويورك تايمز" مقالاً عن منتِج أميركي فحّاش أجرم ضد نساء قادهن حظهن التعس إليه.
ثارت الثائرة، وانتفض العالم الحر، افتراضياً، ولسان حاله يردد بالإنكليزية:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ** حتى يُراق على جوانبه الدم
هذا العالم الذي يقف اليوم مندهشاً مشمئزاً من رجل ثري أبيض استغل بحقارة مَن هن أضعف منه بحكم الظروف، هو نفسه العالم الذي يمنح لواينستين ومَن يشبهونه في كل مكان وهم كثير، غطاء امتيازهم الذكوري الوثير الذي يسمح لهم من جملة ما يسمح باستباحة النساء.
والاستباحة أذى كلها وإن اختلفت الأنواع والدرجات، يتساوى في ذلك لفظٌ بِفِعل، والأول هو من مُقدِمات الثاني، إن لم يُزجر بقانون أو ضمير، شَطّ واستَبَد.
في حصة علم الاجتماع منذ سنوات عديدة، ألقى أستاذ المادة بيننا نحن الطلبة من الجنسين إشكالية التحرش كموضوع للنقاش.
كان المفهوم حديثاً علينا والمصطلح غير ذائع وإن كانت الظاهرة جزءاً من حياتنا اليومية وتؤثث أكثر الفضاءات العامة، حتى باتت أمراً عادياً جداً وجزءاً من ثقافة البلد.
عندما سُئل الطلبة عن رأيهم تشابهت الردود، ولكن أبرزها، الذي علِق بذاكرتي إلى يومنا هو تشبيه أحدهم التحرش بـ"وردة إن شاءت الفتاة أخذتها وإن لم تشأ لم تأخذها، والأَولى بها ألا تفعل إن كانت محترمة، وهو -أي التحرش- خدمة لها على كل حال، وإلا ففيمَ خروجها إن لم يكن طلباً للإعجاب.. والتحرش؟".
في هذه الجملة تلخيصُ كل المسألة.
بقدر غضبي من قائلها يومها واشمئزازي من ضحك زملائه وزميلاته فيما بدا لي يشبه التعاطف مع كلامه أو المؤازرة، بقدر تفهمي اليوم، فكيف له أو لمثله أن يقول غير ما قال وفينا من النساء قبل الرجال من لم يحسم بعد في إنسانية المرأة الكاملة أو أهليتها أو أحقيتها بالانتماء إلى الفضاء العام، وفينا من يتمضمض مستغفراً بعد لفظ "المساواة" وكأنها إثم عظيم.
كيف لمن تدثر بغطاء واينستين الوثير أن يرى غير ذلك؟
قبل بضعة أشهر تعرضت فتاة داخل حافلة إلى انتهاك عظيم في واضحة النهار، على مرأى ومسمع من حَضَرَ وصَوّرَ وشَهّرَ بها عبر منصات العالم الافتراضي.
ثارت الثائرة يومها أيضاً، ولكن محلياً وبمقدار، فالواقعة لم تكتب عنها الـ"نيويورك تايمز" والفتاة من ذوي الإعاقة تنتمي إلى هذا الجزء من العالم؛ حيث كل شيء وارد. حتى وسط الأدلة المصورة الدامغة وصيحات الفتاة المستغيثة المفجعة، من اصطف مع الجناة يلتمس بكل حقارة الأرض لهم الأعذار، ويتساءل: علّ لباسها قد استفزهم؟
قبل أن تخبو الحَمِيّة وتتوارى ثورة التغريدات والمنشورات حول قضية واينستين كما طوى النسيان سابقاتها، وقبل أن يختفي #METOO، خلف وسم جديد لقضية جديدة تستحق اندهاش العالم ونضاله الافتراضي؛ لنعلم أن المشكلة الحقيقية هي غطاء واينستين الوثير، وأن الحل في خلعه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.