جرعة اكتئاب

ماذا سيكتب التاريخ عن زماننا؟! وهل سيُكتب لجيلنا اليوم أن يعايش تغيّر المشهد، أو المشاركة في تقليل سوداويته؟ لا أعرفُ إلا شيئاً واحداً، وهو أنني لا أعرف شيئاً! قالها الفيلسوف اليونانيّ سقراط فاغراً فاه،

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/14 الساعة 05:36 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/14 الساعة 05:36 بتوقيت غرينتش

هذا الليل الطويل بات عصيًّا على الانكسار، شعوبٌ بأكملها تُصفَّى عرقيًّا، أو "معرفيًّا"! وتُجلى عن أماكن نشوئها طوعاً وكرهاً، عصر التفكك عنوانه الأبرز، من رأس النظام الحاكم: الدولة، مروراً بالمجتمعات.. وانتهاءً بالفرد الشرقيّ، الذي يضمحل شيئاً فشيئاً!

في خلال خمسة أعوام.. تغيّرت صورة أوطان بكاملها، بُنيت دولٌ من سراب، وهُدمت أخرى، والعرب مفعول به، لم يرقَ لمستوى نائب الفاعل حتى! وفيما غدا هذا الوطن ساحة سجن كبير، قرر البعض النزوح إلى الشمال (على رأي الفذ الطيب صالح)، وأي شمال سيسع دفء الشرق، وحميميته وآهاته وترانيم الصلوات فيه؟!

فجأة خُربت مآذن الشام، وطاشت العقول في يمن الحكمة، وسال الدم في البحرين، وهرمت ثورة الياسمين رغم شبابها! قيل على لسان غير مؤرخ أن الشرق ما زال مستعمراً، وأن أيادي المنتدبين تتحرك خلف ستار، دولٌ من كرتون، وطنٌ ممنوع من الحياة إلا تحت السيف، أو لأجل حامليه!

ماذا سيكتب التاريخ عن زماننا؟! وهل سيُكتب لجيلنا اليوم أن يعايش تغيّر المشهد، أو المشاركة في تقليل سوداويته؟ لا أعرفُ إلا شيئاً واحداً، وهو أنني لا أعرف شيئاً! قالها الفيلسوف اليونانيّ سقراط فاغراً فاه، وها نحن نعلن وبكل مسؤولية ووعي، أننا ما عدنا نفهم شيئاً من معادلات السياسة في منطقتنا، ببساطة لأن مجاهيلها أكثر من أن نستوعبها أو نزجها في سياق مفهوم! بوضوح أكثر: لأن المحتلّ ما زال يحكمنا!

أن يشعر الشاب اليوم أنّه غير قادر على التأثير، أو البوح عن رأيه إلا خلف اسم مستعار على الشبكات الاجتماعيّة، أو خارج وطنه، مؤشر خطير على ذلك البعبع الذي تتشكل فيه صورة مجتمعات بكاملها، ترى الحرية حبلاً مجدولاً جذًّاباً يطاول السماء، لكنه ليس في وعيها إلا حبل مشنقة!

القيم تتضاءل، الرموز تُطحن في حرب الطوائف، والأشياع، والخطأ والصواب! ونحنُ في عتمة ندافع عن أصنام، ونحسب وجودَها صمام أمان، فإذا هو محض عذاب يتشردق فيه الجميع، وينزلق في وحل الدفاع عنه جميع آخر أيضاً!

في هذا الوطن العربيّ، أشباحٌ من همٍّ، وغيومٌ من أسى.. ولا حلّ في الأفق! لا أفق هنا أصلاً!

نستمر بالعيش، لأنه روتين اعتدنا على ممارسته، فحياة العبْد مهما كانت محاطة بالرفاهيات جدلاً، إلا أنها مقيّدة.. سيهرب الناس من هذا الجحيم، ويمنّون أنفسهم بأن الأمور في بلادهم سترجع يوماً ما كما كانت! لكنهم لا يعلمون أننا هنا في منطقة نشطة ثوريًّا وعسكرياً، مئة سايكس بيكو، ألف لورنس.. دويلات من حولنا تتجزأ، ولا تستبعد إذا اكتشفتَ بئر نفط في فناء بيتك الخارجي أن يقدم لك (الجماعة إياهم) عرضاً خاصاً يقضي ببناء دولتك المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها الكرسي الهزاز في غرفة الضيوف!

سنستمر بالذوبان حتى لا يبقى في الكأس سكر، فكل ما يُفرحنا مهما كانت جماعاتنا وانتماءاتنا وتياراتنا ستختفي فجأة، ويغلق الستار على دمار يشقي ذرارينا من بعدنا، فعندها ماذا سيبني من فقد الإسمنت والحجر؟!

كُنّا إذا سئمنا من حكامنا خلعناهم، أو رفعنا في وجههم سيوفاً لا تعطب إلا الأجساد.. لكن حكامنا اليوم من فولاذ، لا يصدأون، ولا يموتون إلا بشق الأنفس.. أتعبونا ولم نتعبهم، دمروا أحلامنا، أخذنا حريتنا، لكنهم سلبوا منا الوطن!
لكن هيهات.. محالٌ أن يُرجعونا عبيداً.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد