التعليم هو عدونا “2”

إذن لا بد من قرار سياسي نابع من وطنية حريصة وغيورة، هذا القرار يتضافر مع ما يقدم في سبيل التطوير على كافة المستويات، وأيضاً يعيد النظر في أهداف وفلسفات التعليم لدينا ومراجعتها وتنقيحها وإعادة صياغتها بما يتلاءم مع الواقع العالمي

عربي بوست
تم النشر: 2016/09/08 الساعة 00:26 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/09/08 الساعة 00:26 بتوقيت غرينتش

بعد ذلك ينتقل الحديث عن حلول لهذا النظام العقيم، لكن بعد فوات الأوان لتدارك الأمر، وعكس التيار ولكن بالتجربة والفشل تتربى الشعوب أو تجعلها تغير من خططها وآلياتها، وكذلك اقتناعهم بضرورة تغيير كتبهم المدرسية الغبية ومسابقاتها المحزنة واستبدالها بتعليم مهني وتخصصي، فهو وحده القادر على إعادة النشء إلى الحقول والمصانع، وأورد في معرض حديثه كلام أحد المفكرين "تين" وهو يتحدث عن أهمية التعليم المهني في تطور الذكاء عن التعليم الكلاسيكي، حيث يقول تين: "إن الأفكار لا تتشكل إلا في وسطها الطبيعي والعادي، والشيء الذي يُنبت براعمها هو الانطباعات الحسية العديدة جداً، والتي يتلقاها الصبي كل يوم في المشغل أو في المنجم، أو في المحكمة أو في المدرسة أو في المستشفى أو في مجموعة الآلات"، وهو هنا يتحدث عن الأشياء الحسية التي يجب أن تبصرها عين التلميذ وتلمسها يده، وحتى يشمها بأنفه، وأنه يجب أن يتلقاها من الطبيعة، ويلاحظ أن الطفل الفرنسي محروم من كل هذا التواصل مع الطبيعة، بل وكل العناصر القابلة للتمثيل والهضم، وبدلاً من ذلك فهو مسجون لمدة سبع أو ثماني سنوات في المدرسة بعيداً عن التجربة المباشرة أو الشخصية التي كانت ستقدم له الفهم الدقيق للأشياء والبشر ومختلف الأساليب للتعامل معها.
ويصف كيف أن هؤلاء التلاميذ الذين ضاعت سنوات عمرهم هباء مع أنها السنوات الأهم في حياتهم، وكيف أن هؤلاء التلاميذ الذين نجحوا في الاختبارات قد كلفهم المدرسون فوق ما يطيقون عندما طلبوا منهم ترديد أو حفظ مجموعة من العلوم وهم جالسون على كراسيهم والطلاب واقفون أمام اللوح أو السبورة لمدة ساعتين، ليفعلوا ذلك دونما أي فهم لما يرددون، ولكن وبعد شهر واحد من هذا التاريخ لن يتذكر التلاميذ شيئاً من هذا؛ لأن مكتسباتهم المعرفية عديدة وأكثر مما يجب وثقيلة بما فيه الكفاية؛ لذا فهي تتبخر من عقولهم، فتتدهور قوتهم العقلية والخيال الخصب يجف وينضب.. وماذا بعد؟ وما هو الناتج؟
الذي ينتج هو إنسان مصنوع بشكلٍ جاهزٍ يظهر للعيان كإنسان منتهٍ، هذا الإنسان المدجن والمتزوج والمستسلم للدوران في حلقة مفرغة إلى ما لا نهاية ينغلق داخل وظيفته الضيقة وهو يقوم بواجبه كما ينبغي، ولكن لا شيء آخر، وهذا هو المردود، وبالتأكيد فالحصيلة الناتجة لا تساوي الثمن المدفوع بعكس ما في إنجلترا وأميركا فإن المردود الحاصل مساوٍ للجهد المبذول أو أكبر منه.
هنا يقارن غوستاف لوبون بين نظامهم التعليمي ونظام الأنجلوسكسوني، فتعليمهم لا يجيء من الكتب وإنما من الأشياء ذاتها، فالمهندس مثلا يتدرب في المشغل ونادراً في المدرسة، وكل طالب يتوصل بالضبط إلى الدرجة التي يمتلكها عقله ويوجه بناء عليها إلى ما يجيده ويفضله ويستطيعه وهذه هي الطريقة الديمقراطية والمفيدة للمجتمع، فهي أفضل من تلك التي تجعل من مستقبل الفرد ومهنته تعتمد على مسابقة تدوم لبضع ساعات فقط وتتم في سن الثامنة عشرة أو العشرين، وفي وصف مشابه لما يحدث في بعض بلادنا العربية من امتحان للشهادة الثانوية مثلاً.
ويختم المفكر حديثه بتوصله إلى نتيجة مفادها التفاوت بين نظامهم اللاتيني والحياة العملية، حيث تم التحضير النظري والمدرسي بواسطة الكتب، وذلك من أجل الامتحان وفقط، مستخدمين في ذلك أسوأ الوسائل التي هي ضد الطبيعة وضد المجتمع؛ لأنه يؤجل التدريب العملي باستمرار، وكذلك الإرهاق الذي لا يبالي بالمستقبل، أي عندما يبلغ الإنسان سن النضج الذي يمارس فيها مسؤولياته ومهنته، متناسياً ومتغاضياً العالم الحقيقي الذي سيواجهه الشاب، وكذلك المجتمع المحيط به الذي ينبغي أن يتأقلم معه أو يستسلم له، وعن الصراع البشري الذي ينبغي أن يجهز نفسه له لكي يستطيع أن يدافع عنه، ويسلح نفسه ويتدرب على الصعوبات ويصبح قوياً خشناً، وعلى العكس من ذلك فبدلاً من أن توفره المدارس، فإنها تعمل على جعل التلاميذ غير مؤهلين وغير أكْفَاء وتنزع منهم كل أهلية وكفاءة فيما يخص مستقبله ووظيفته اللاحقة والنهائية.
وبناء على ذلك وعندما يدخل في معترك الحياة ومسرح العالم ويخطو خطواته العملية الأولى، فإن خطواته لا تكون في غالب الأحيان إلا سلسلة من السقوط المؤلم، يظل يئن تحت وطأتها ويشكو زمناً طويلاً بسببها وأحياناً يظل عاجزاً أو مقعداً في البيت، ثم يختم فيقول: "فالتعليم الذي يُقدم لشبيبة بلد ما يتيح لنا أن نستشرف قليلاً مصير هذا البلد ومستقبله، وتربية الجيل الحالي تبرر كل التوقعات والمخاوف السوداء"، "إن المدرسة تخّرج اليوم الناقمين والفوضويين وتهيئ للشعوب اللاتينية زمن الانحطاط".
بعد هذا العرض يتضح أن ما نحياه في واقعنا التعليمي ليس بجديد ولسنا أول من أُصيب به، وكذلك يمكننا معالجته والخروج من نفقه المظلم إلى آفاق أرحب وأسع بتعليم يليق بمكانة أمتنا وما يُنتظر منها، وأنه يمكننا الاستعانة بما فعلته بعض الدول التي أحست بالخطر فدقت ناقوسه، وتحلت بالشجاعة وواجهته في سبيل تطوير تعليمهم والخروج من كبوتها، واتخذت القرارات اللازمة لمعالجته.
إذن لا بد من قرار سياسي نابع من وطنية حريصة وغيورة، هذا القرار يتضافر مع ما يقدم في سبيل التطوير على كافة المستويات، وأيضاً يعيد النظر في أهداف وفلسفات التعليم لدينا ومراجعتها وتنقيحها وإعادة صياغتها بما يتلاءم مع الواقع العالمي، ولا تكون مجرد قرارات بإصلاحات فرعية لا تقدم ولا تؤخر فيظل الوضع كما هو عليه، اللهم إلا من بعض العمليات التجميلية التي لا تمس الجوهر من قريب ولا من بعيد، فنعود أسوأ مما كنا عليه.
وبالرغم من أن بعض الدول العربية التي تهتم فعلاً وواقعاً بالتعليم وتنفق عليه بسخاء لتضع نفسها في مصاف الدول المتقدمة، فإنه ما زالت هناك من العوائق التي تحول دون الوصول لغايتها وتحقيق ما تصبو إليه، فتجد إنفاقها على المباني والمراكز والملاعب إلى غير ذلك من هيكل العملية التعليمية دون الولوج إلى الجوهر، فبقيت المذاكرة والحفظ والتلقين وإن كانت بصورة أقل من نظائرها في الدول الأخرى، فيما يزال التلاميذ يجتهدون من أجل الاختبارات وفقط، وما زالت الكتب التعليمية بها من الحشو والثقل إلى غير ذلك من بقايا وآثار؛ لذا لا بد من متابعة ومراجعة لكل خطوة حتى لا يؤثر الترهل الإداري وغيره من الأسباب على تعطيل المسيرة.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد