لا تروق لي كتابات أو معتقدات يوسف زيدان "على الأصح"، فما هو الإنتاج؟ اعتيادية البحث عن ضوء الشهرة من باب التشكيك فى المعتقدات والثوابت الراسخة منذ زمن، أو إثارة الشبهات حول الرموز والشخصيات التاريخية والوطنية، سواء أكانت دينية أو وطنية.
يوسف زيدان، عبر شر البلية "عمرو أديب"، فى المرة الأولى وصف الناصر صلاح الدين بأنه "من أحقر شخصيات التاريخ"، والثانية تطاول على الزعيم أحمد عرابي، وقال: إن عرابي لم يرَ الخديوي، ولم يقل له الجملة الشهيرة: "لن نستعبد بعد اليوم"، وأن عرابي قد أضاع البلد؛ إذ كان سبباً لاستعمار استمر 70 عاماً.
هل ذهب أحمد عرابي إلى قصر الخديو توفيق؟
لم يكن يوسف زيدان المشكك الأول في وقفة أحمد عرابي أمام الخديوي توفيق، البداية كانت من الكاتب الكبير حلمي النمنم، وزير الثقافة الوهمي في مصر، وفي لقاء تليفزيوني لبرنامج "حدوتة مصرية" نفى النمنم أن يكون الزعيم أحمد عرابي قد ذهب إلى قصر الخديوي، مؤكداً غياب الوثائق التي تخبرنا بهذا الحدث.
ومن ثم تبعه الكاتب الصحفي الصحفي إبراهيم عيسى إلى تأكيد الكلام نفسه؛ حيث قال: "أحمد عرابي ما ركبش الحصان بتاعه، ولا راح قصر عابدين، ولا وقف قصاد الخديو توفيق، ولا قال له؛ لقد ولدتنا أمهاتنا أحراراً، ولن نستعبد بعد اليوم، هذا الحوار وهذا المشهد لم يحدث على الإطلاق، لا حرفاً ولا لفظاً ولا موضوعاً ولا مشهداً".
وجميعهم أخطأوا في تأكيد غياب الوثائق التي تؤكد ذهاب عرابي إلى الخديو توفيق في ساحة قصر عابدين 9 سبتمبر/أيلول 1881.
بعيداً عن كل هذا يؤكد عدد من الروايات أن عرابي وقف في وجه الخديو توفيق هي:
الوثيقة الأولى:
مذكراتي في نصف قرن لأحمد شفيق باشا
ما ذكره شفيق أن سبب اندلاع الثورة العرابية الثانية كان طلب بعض الجنود مقابلة الخديو بعد أن داست عربة لأحد الأجانب زميلاً لهم وقتلته.
اعتبر الخديو طلبهم جرأة كبيرة من جانبهم، ولأن الجنود كانوا يتبعون لواء عبد العال بك حلمي، فقد تم عزله وتولية داود باشا يكن مكانه، لكن الأمر قوبل بالرفض، ومن هنا اشتعلت الأجواء مرة أخرى وبدأ العرابيون في توزيع المنشورات السرية بالبلاد، وبدأ عرابي جمع توكيلات يوقع عليها الأهالي بأن عرابي نائب عن مطالبهم الوطنية، وقد بلغ عدد الموقعين نحو 1600 تقريباً، بحسب شفيق باشا.
وهنا، بدأ التحضير لما عُرف بالمظاهرة العرابية، حيث قال "يكن في كتابه إنهم سمعوا بالقصر أن زعماء الحركة العرابية قرروا القيام بمظاهرة في قصر عابدين وأفهموا صغار الجنود والضباط أن المقصود بها استعراض عام للجيش أمام الخديو".
وقبل المظاهرة، أرسل عرابي إلى سفراء الدول، يخبرهم بأن المظاهرة في 9 سبتمبر/أيلول 1881، ليس فيها أدنى تعرض لمصالح الأجانب؛ لأنها تخص مطالب داخلية.
ويضيف شفيق: "نصح المراقب الإنكليزي سموه (الخديو توفيق) بألا ينسى أنه مليك البلاد، وتقدّم عرابي راكباً جواده شاهراً سيفه، وخلفه بعض الضباط، فنزل الخديو إليهم من قصره غير مكترث لما قد يتعرض له من الأخطار، وكان معه السير أوكلاند كلفن المراقب، والمستر كوكسن قنصل إنكلترا، ولم يتبع الخديو سوى اثنين من عساكر الحرس الخصوصي".
وصاح أحد الحارسين في عرابي قائلاً: "أغمد سيفك وانزل عن جوادك"، فامتثل عرابي قائلاً: "جئنا يا مولاي لنعرض على سموك طلبات الجيش والأمة، فقال الخديو: وما هي؟ قال: إسقاط النظارة المستبدة وتشكيل مجلس نواب وتنفيذ القوانين العسكرية التي أمرتم بها".
وردّ الخديو على عرابي قائلاً: "كان في إمكانك تقديمها للحكومة، وعند ذلك أشار عليه المستر كلفن بأن يعود الخديو للقصر، وبقي هو يناقش عرابي وينصحه بالانسحاب حتى يتيسر النظر في مطالبه بما يجب من تفكير وروية، فلم يسمع عرابي له قولاً، ولم يقبل نصحاً، فعاد هو وزميله كوكسن إلى الخديو يشيران عليه بأن الضرورة تقضي بإجابة هذه المطالب؛ لأنه لا حول ولا قوة لديه".
الوثيقة الثانية:
كتاب الكافي تاريخ مصر القديم والحديث للمؤرخ ميخائيل شاروبيم، وهو معاصر للثورة العرابية "طبعة دار الكتب والوثائق القومية 2012".
لما وصل الخديو إلى رأس "الطريق الموصل إلى ميدان عابدين ورأى الميدان غاصاً بالجند والخيل والمدافع والخلق الكثير من العامة، وهم فى ولولة وخوف، عرج إلى طريق أخرى ودخل السراي من باب صغير أمام الجناح الذي بالجانب القبلي فى السراي، وكان معه فى مركبته كولفن المراقب الإنكليزي وخلفه الجنرال استون باشا وثلاثة من الضباط".
ويضيف صاحب الكتاب "نزل وسار نحو الباب الغربي الموصل إلى الميدان؛ حيث الجند والخيل فتقدم إليه فى الحال رضا باشا وأعلمه أن جند القلعة قد انضموا أيضاً إلى المتظاهرين ولم يسمعوا لمقدمهم كلمة، فالتفت كولفن إلى الخديو عندئذ وقال: إذا تقدم نحوك أحمد عرابي فأمره أن يرد سيفه إلى غمده ويتبعك، فإذا فعل تقدم أنت إلى رأس كل فريق من الجند ومُره بالانصراف.
فقدم الخديو بقلب ثابت وشهامة كبرى وسار نحو أحمد عرابي وعبد العال باشا وأشار لهما بالسلام فسلما بالاحترام والتجلة والوقار، فقال لهم: ما لكم نبذتم طاعتي وعصيتم أمري، فقالوا: حاشا نحن عبيدك المخلصون. فقال انصرفوا وسأبذل جهد الاستطاعة فى تحسين أحوال العسكرية وتنظيم قوانينها على قواعد ثابتة، فأجاب عرابي: إنني وإخواني وجميع ضباط الجيش وأفراد العسكر خاضعون لك يا مولاي، وكلنا لا نبرح من هذا الموقف حتى تنجز لنا ما طلبناه. فقال له الخديو: رد سيفك إلى غمده، فأجاب سمعاً وطاعة، وناول الخديو ورقة وقال: هذه يا مولاي ملحقة بمقترحات الوطن وبنيه. فأخذها الخديو وقفل عائداً إلى السراي ولم يأمر أحمد عرابي أن يتبعه ليقبض عليه كما أشار بذلك المراقب الإنكليزي، فلم يقتحم الخديو الدرج حتى جاءه من يقول: إن جند الحرس انضموا أيضاً إلى المتظاهرين".
وللعلم هذا ينصفهم فى نقض حديث عرابي الشهير مع الخديو، وجملته الشهيرة التي عرفناها منذ الطفولة: "لقد خلقنا الله أحراراً ولم يخلقنا تراثاً أو عقاراً"، فوالله الذي لا إله إلا هو لن تذكر إلا في مذكرات عرابي التى تفرغ لكتابتها بعد عودته من المنفى.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.