لم يكن الشعور بالصدمة إزاء فوز دونالد ترامب بالانتخابات الأميركية نتيجة الخلل البسيط في الحسبة الانتخابية، بمعنى أنه لم يكن فقط نتيجة عدم توقع فوز مرشح محدود (أو ربما معدوم) الخبرة السياسية وذي أخلاق سوقية وخطابات عدائية وعنصرية في بلد ديمقراطي، فضلاً عن أن يكون بلداً يدعي أنه نموذج ديمقراطي مُلهم.
الصدمة كانت لدوافع أعمق من ذلك من وجهة نظري؛ إنها صدمة اكتشاف واقع مغاير تماماً لما نتوقعه، وفشل ديناميكياتٍ وآلياتٍ كنا نثق بكفاءتها، وتراجع القبول بمبادئ كنا نتوهم أنها راسخة وجزء مستقر من الوعي الإنساني المعاصر.
فوز ترامب ليس المؤشر الأول للترامبوية التي يعيشها العالم حالياً، فهناك على سبيل المثال صدمة نتائج استفتاء البريكسيت وانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى بعض المؤشرات الأخرى متمثلة في الصعود السياسي لبعض القوى اليمينية المتطرفة والتي يقودها مجموعة من المهووسين سياسياً في العديد من دول العالم. فما الذي تشير إليه هذه الظاهرة؟
أولاً: تراجع مفهوم السياسة بمعناها العقلاني "البارد"، السياسة الروتينية التي يقودها "رجال الدولة المتمرسون" وتحسب وفق منظور "الخيارات المنطقية" ذي الأصل الاقتصادي، فالمشتري يذهب إلى السوق ليشتري السلعة الأجود والأرخص ثمناً بحسبة عقلية بسيطة ومباشرة، وكذلك الناخب أمام صندوق الانتخابات، أو حتى صانع السياسات الذي يختار بين بدائل متعددة. هذا المفهوم في تراجعٍ الآن، وبدلاً من جدلية السياسة المبنية على المصالح في مقابل السياسة المبنية على المبادئ، بدأت تظهر السياسة المبنية على الغرائز، التي لا يمكن تفسيرها وفق منطق مبدئي أو مصلحي؛ بل بالرجوع إلى الغرائز الأولية الفجة: الخوف، الرغبة في التميز والاستعلاء، الكراهية، العنف.
"فلنُعد أميركا قويةً مرة أخرى"، "فلنستعد السيطرة على بريطانيا مرة ثانية"،"ألمانيا فوق الجميع"، "مصر هاتبقى قد الدنيا"، مثل هذه الشعارات ليست برامج انتخابية أو شعارات سياسية (مبادئية أو مصلحية) بقدر ما هي خطابات تحفيز لغرائز الاستعلاء القومي والوطني، وهذه الخطابات لا تعمل بشكل كفء إلا بشرطين: صناعة عدو ما والتخويف منه: المهاجرين، الإرهابيين، اليهود الألمان، الشيوعيين، المتآمرين على إسقاط الدولة، ونحوهم؛ ثم الوعود الأكيدة الجازمة بأننا سننتصر في معركتنا المصيرية هذه ضد هؤلاء الذين تمتلئون منهم رعباً والذين يهددون بقاءنا، وذلك تحت قيادة حازمة (أو باطشة) لديها القدرة على اتخاذ القرارات الصعبة اللازمة.
ثانيا:ً تهاوي فكرة أنه يمكن الاعتماد على الديمقراطية الليبرالية بمعناها الواسع (من التعددية الحزبية، والانتخابات العادلة، والمجتمع المدني القوي، وحرية وسائل الإعلام وشفافية المعلومات، ونحو ذلك) لضمان نظام سياسي خالٍ من المفاجآت السيئة؛ إذ لا يمكن أن يخترق مغامر أخرق كل هذه الضمانات ويتغلب عليها في النهاية.
وتكمن المفاجأة هنا، ليس فقط في تمكّن أنصار البريكسيت من التلاعب بالبيانات والمعلومات لتضليل الناخبين في بريطانيا أو في فوز ترامب بانتخابات الرئاسة الأميركية على حساب العديد من السياسيين المخضرمين، سواء في الانتخابات الداخلية للحزب الجمهوري أو في الانتخابات العامة؛ بل في حدوث هذا تحديداً في دول تتمتع بميراث ديمقراطي عريق ولا تواجه أزمة حادة قد تُفقد المصوّتين اتزانهم (مثل الهزيمة العسكرية أو تهديد الإفلاس الاقتصادي أو ما شابه) لكي ينجذبوا -مسلوبي الإرادة- إلى شعارات شعبوية ساذجة.
والمفاجأة الثانية، أن ترامب لم يتسلل إلى النظام ويتغلب عليه بقواعد هذا النظام الراسخ وبقِيمه المعروفة، فلم يحاول أن يُخفي فجاجته أو يغلّفها زوراً بقيم أو قواعد النظام السياسي الليبرالي؛ بل تحداها باستخفافٍ وحدَه، فلم يُظهر نفسه سياسياً وقوراً أو متمرِّساً؛ بل إن خطاباته المستهينة بالأقليات والمهاجرين وتعبيراته اللفظية والبدنية السوقية، كل هذا (مما كانت وسائل الإعلام المناهضة له تتداوله كسقطات) كان يسوّق بها نفسه في أوساط تجتذبها هذه (الموضة السياسية) وهذا النمط من السياسيين. وهذه السقطات وهذا الاستخفاف اشتهرا أيضاً عن وزير الخارجية البريطاني الحالي بوريس جونسون، أحد قيادات معسكر البريكسيت.
ما نشهده الآن هي ظاهرة في أول تداعياتها، ربما تكون سحابةَ صيف عابرة، أو ربما تكون تحولاً مفصلياً في التاريخ السياسي الغربي والعالمي، وحينها لن يكون مستغرَباً في السنوات المقبلة أن يسود هذا النمط من السياسة اللاعقلانية والسوقية، وأن تتفكك بعض المنظمات الدولية، وتتمزق بعض الدول، وننزلق إلى اللايقين والفوضى الدولية، ونرى طبول الحرب يقرعها بعض المهووسين لإشباع غرائز الاستعلاء والكراهية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.